متاهات الوهم في قاع الضياع

اسرة ومجتمع 2022/03/11
...

  قاسم موزان 
 
عادة ما أراهم وسط بغداد وأحيائها جالسين على حافات الأرصفة المتهرئة تحيط بهم النفايات من جوانبها مع أكداس فراش تأبى الهوام الاقتراب منه أنفاً، متكورين على أنفسهم باستحياء، مرتدين ملابس رثة متسخة ثقيلة في كل المواسم ويصعب تمييزها من جلودهم وغاب أصل ملامحهم، ناكسين رؤوسهم من فرط ما وصلوا إليه من اضطرابات وإساءات وإرباك عقلي، يتوسدون أوجاعهم، ويمدون أيديهم المرتعشة للعابرين، وفي الليل البهيم يحتد الصراع النفسي والمراجعة الذاتية، ونباح الكلاب السائبة التي تنهش ما تبقى من آدميتهم المفقودة في لجة العوز، تركوا ديارهم المنسية الضائعة على خارطة الوطن إلى العاصمة وهم يتأبطون أحلاماً وأوهاماً للبحث عن أشياء رسمها خيالهم عن فردوس لا نهائي يحتفي بوجودهم، إلا أن المدينة خدعتهم بأضوائها الساطعة وضجيج شوارعها وسرعة ايقاعاتها، بعد حين يطول أو يقصر تغيب التفاصيل المبهرة و تتحول إلى كابوس ثقيل بعد نفاد ما يملكونه، وانقادوا بصمت إلى التسول المذل لإشباع حاجاتهم وفي مقدمتها تلك التي تقتل صاحبها بصمت حتى يصبح جثة لا حراك بها وإن كان حياً على قيد حياة لا دلالة لها في المعنى والتوصيف ولا تلوح في الأفق نهاية مأساتهم الإنسانية، وإن اختار بعضهم تلك الخاتمة المرعبة في التشظي، ولم يعد بإمكانهم العودة إلى مساقط رؤوسهم بعد خسارة أنفسهم في متاهة الوهم، اقتربت من أحدهم بعد أن أعطيته بعض المال وسألته عن حاله، فقال وهو لا يزال يطأطئ رأسه خجلاً إلى الأرض وراحت عيناه تشحذان الإجابة من مكان ما قد يجد مبرراً ضعيفاً لسلوكه القسري و بعد صمت طويل، كما ترى «غريبة الروح « ثم أردف بلغة سليمة، لقد صرت رهيناً لمن أشبعتني ذلاً ومهانة، إنه الضياع بأبشع صوره الذي سلب إنسانيتي وجعلني منبوذاً ونزلت بإرادتي إلى قاع المدينة المتخم بمخدوعين مثلي وقد سقطت قطرات الحياء المتبقية من الجباه المحروقة، كان بإمكاني أن ألم أجزائي المبعثرة وأنجو بنفسي قبل السقوط في القاع، وأردف: نحن غرقى في المستنقع الآدمي نبحث عن طوق نجاة أو موت رحيم وكلاهما لن يأتي، وأمام هذه المآسي الإنسانية يتحتم على الدولة والمنظمات الإنسانية إيجاد حلول ناجعة لانتشال هؤلاء من الواقع المرير الذي يستقرون فيه إلى أجل غير مسمى في غياب الإهمال وعدم الاهتمام بشريحة بالإمكان تأهيلها بالعمل الدؤوب الذي قد يطول لكنه ليس مستحيلاً إذا توفرت النوايا السليمة في الإنقاذ، وتوفير الحياة الحرة الكريمة بغية إبعاد شبحي العوز والضياع عنهم.