حلبجة.. المدينة العراقية الشهيدة !

آراء 2019/03/16
...

 عدالت عبدالله*

 بعيداً عن النعرات القومية والأفكار القوموية، التي لا تنسجم وطبيعة المجتمع العراقي الفسيفسائي ولا مع ثقافة التعايش وقيم المواطنة، يمكن القول وبإعتزاز، ان مدينة حلبجة التابعة إدارياً إلى إقليم كُردستان، هي في الوقت نفسه مدينة عراقية خالصة، مدينة العرب والتركمان والآشوريين، مدينة الشيعة والسنة، وكافة الأطياف والطوائف حتى وإن لمس المرء قصوراً في التفاعل اللازم، أحياناً، لدى الدولة وأهالي محافظات وسط وجنوب العراق، معها ومع مآسيها لأسباب، ربما ابرزها غياب اهتمام الإعلام العراقي المطلوب بها.

   كما ان حلبجة هي بجملة “رمز مظلومية الشعب العراقي في عهد النظام البائد” ومن أنكب المدن العراقية وأكثرها ابتلاء بجرائم البعث(1968-2003م)، فهي التي عكست لنا أوج الحقبة الاستبدادية، التي اتفقنا في عراق ما بعد صدام، على ضرورة القطيعة معها وتجاوزها، وذلك من خلال بناء ثقافة سياسية بديلة، قائمة على مفاهيم العدل والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة. وقد ورد ذلك حتى في الدستور العراقي الدائم(2005م)، لاسيما في ديباجة الدستور عندما تستحضر لنا وبأدق التعابير منطلقات السيادة الشعبية ومعالم العراق الجديد الوليدة، كما جاء في الديباجة من استذكار واستلهام مواجع القمع الطائفي وفجائع شهداء العراق واستنطاق القمع القومي في مجازر حلبجة وبارزان والأنفال والكرد الفيليين وآلام العراقيين كافة، شيعةً وسنة، عرباً وكرداً وتركماناً وكافة المكونات الأخرى. 
  وحلبجة هي طبعاً لابد ان تُحسب ضمن هذه المعادلة!، انها مدينتنا العراقية الشهيدة، المُستَحقَّة بأن تكون منطلقاً من منطلقات بناء عراق ما بعد الاستبداد، وذلك لا عن طريق إعادة الاعتبار المعنوي اليها وحسب، أو لملمة جراحاتها ومشاطرتها الأحزان فقط في المناسبات ومع استذكار فاجعات وويلات البلد، وانما عبر مشاريع حيوية وستراتيجية، تتبناها الدولة العراقية على غرار مشاريع إعادة بناء مدينتي “هيروشيما” و”ناجازاكي” اليابانيتين، اللتين تعرضتا لهجوم نووي أمريكي في نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس (1945م).
   ولا مراء ان اغلبنا يعلم أن الحدث الذي لعب دوراً محورياً في إعادة إعمار مدينة مدمرة، كاملةً، كـ”هيروشيما” مثلاً، كان في عام(1949م)، وقد تمثل في إصدار قانون خاص بإنشاء المدينة مجدداً، وكان هذا القانون ثمرة الجهود الحثيثة التي بذلها سكانها ثم الحكومة اليابانية، وقبل ذلك اليابانيون جميعاً حينما بدأوا من كل حدب وصوب يجمون ويغدقون المساعدات على هيروشيما.
   وفي حلبجة أيضاً نحن بحاجة الى هذه الروحية التناغمية والوطنية في بناء ما خربه النظام البائد. صحيح ان حكومة إقليم كُردستان قدمت مشاريع للمدينة وأوكلت على نفسها منذ عام(1992م) مهمة إعادة إعمار وبناء المدينة لحد تحويلها أخيراً بقرار حكومي في عام(2013م) الى محافظة أخرى من محافظاتها بغية تقديم المزيد من الخدمات والعمران فيها، إلا ان الهوية العراقية لهذه المدينة تُلزم هي الأخرى، الحكومة الاتحادية بالمساهمة الفعالة في تعويض جراح أهالي المدينة، وربما أهم قرار ينتظره اليوم الجميع في اقليم كُردستان، وخصوصاً أبناء المدينة، هو إعلان هذه الأخيرة رسمياً، من قبل الدولة العراقية كمحافظة جديدة من محافظات العراق، وذلك كحد أدنى من التعويض المعنوي، ثم العمل على إدخالها ضمن خطط الدولة الرامية لتحقيق التطوير والعمران الاستراتيجي.
    بمعنى آخر، حلبجة اليوم، بحاجة ماسة لإشعارها بالبعد العراقي لهويتها، ولايتحقق ذلك برأيي إلا من خلال الدولة العراقية نفسها وبتعاون رئاساتها الثلاث في هذا الشأن ومؤسسات الدولة جميعاً ودعم الشعب العراقي أيضاً. ينبغي أن نقول لها، وبكل بساطة، ان الذي اقترف بحقها أكبر جريمة وأشرس هجمة بالأسلحة المحضورة دولياً، الأسلحة الكيماوية، في يوم مشوؤم من تاريخ العراق المعاصر،(16/3/1988م)، هو ليس العرب، ولا أي عراقي شريف ولا الأحزاب العربية المعارضة آنذاك ولا الذين يحكمون عراق اليوم، وانما وحده نظام البعث ليس إلا، ولكي نُرَسِّخ هذه الحقيقة، تقتضي اليوم أن نُشعِر، فعلاً وعملاً، أبناء حلبجة بعراقيتهم، أي بالهوية، التي هي الأخرى!، بحاجة الى المزيد من البناء من خلال توطيد انتماء كل العراقيين وتحسين ظروفهم في البلد الذي دمرته الحروب الصدامية، واهلكته اليوم الصراعات الطائفية والقومية والحزبية.
 
*كاتب وأكاديمي من كُردستان العراق