ضريبة التبدلات

الصفحة الاخيرة 2019/03/17
...

حسن العاني 
كلُّ تغيير جوهري سواء نحو الأفضل أم الأسوأ, ترافقه بالمقابل جملةٌ من التبدلات الجوهريَّة, وربما كانت (الثورات والانقلابات) خيرُ مثالٍ على ذلك. فالذي حصل في العام 2003 عراقياً, هو من أقرب الأمثلة, ولم يكن فقط تبدلاً في النظام السياسي للبلد من الدكتاتورية الى الديمقراطية, ومن سلطة الحزب الواحد الى سلطة الأحزاب, 
ومن هيمنة شخص واحد, الى هيمنة مجموعة أشخاص لاتدري أيُّهم المسيطر وأيُّهم الحاكم الفعلي.. انتهى مفهوم الزعيم الأوحد, والرئيس الأوحد بعد أن تحوّلت السلطة الى توافقات وأحزاب تقود الحكم بالعلن او بالتفاهم والتراضي من وراء الستار... أقول: لم يكن التبدّل مقتصراً على ميدان السياسة
, لأنّ التغيير شمل كلَّ شيء بدون استثناء, في أساليب العيش والعادات والتقاليد والجامعة والتريبة والمناهج والإعلام والصحافة والعلاقات الاجتماعية والعاطفية وأنماط التفكير ... إلخ, ولعلَّ من امتدَّ بهم العمر مثلي وعاصروا (14 تموز 1958) يستذكرون جيداً أنّ الشارع العراقي بعد ذلك العام امتلك لغة جديدة ومفردات جديدة, وهذا أمرٌ طبيعيٌّ بعد كلِّ تغيير جوهري كما سبقت 
الإشارة.
دعونا نتلمسُ بعضَ تلك التبدّلات في المشهد العراقي بعد نيسان 2003, وتحديداً في 
المجال التلفازي, فبينما كان العراق قبل هذا التاريخ يمتلك قناتين تلفزيونيتين ولا يمتلك غيرهما, وكلتاهما (أرضيتان-أي بث محلي) وكلتاهما كذلك 
تابعتان للقطاع العام, أي حكوميتان (تلفزيون الجمهورية العراقية) ويمثل الحكومة, و(تلفزيون الشباب) التابع لنقيب الصحفيين, رئيس اللجنة الأولمبية
, (عدي صدام حسين), أصبح يمتلك 
أكثر من مئة قناة فضائيَّة (أي تبث الى العالم كلّه)، تحتل فضائيات القطاع الخاص (الأحزاب) قرابة 92% 
منها.  ويلاحظ أنّ معظم مذيعي الفضائيات لايقيمون وزناً لفن الإلقاء, ولغتهم الفصحى بمقدورها نصب المبتدأ ورفع المفعول به, كما يلاحظ بالمقابل أنّ (مقدمات البرامج) وخصوصاً على فضائيات الاحزاب يتمتعن بالمواصفات التالية (ارتفاع نسبتهن الى مستوى يتفوق او يعادل نسبة المقدمين, حلوات على العموم, وجمالهن لافت للنظر, متميزات في إدارة الحوار, وبارعات بصورة استثنائية في إثارة أعنف المشكلات السياسية او الخلافية او الطائفية بين الضيوف), ومن الأمور المؤكدة, أنّ وجود قناتين تلفازيتين في السابق مع 
(انعدام الحرية وأجواء الديمقراطية), لم يكن يسمح بمثل هذه الأجواء الجديدة وهذه الانطلاقة, الى الحد الذي بتنا نتلقى فيه الخبر الواحد بأربع معلومات متباينة او خمس او أكثر, والى الحد الذي يحضر فيه وجه سياسي مدمن على الظهور بصفته ضيفاً, فإذا به يطلع على الناس وعلى المشاهدين وهو يرتدي دشداشة ويضع 
نعالاً في قدمه وكأنّه في مقهى الطرف او في زيارة الى بيت شقيقته الصغيرة
, بل الى الحد الذي ارتفعت فيه مناسيب الشتائم البذيئة الى مستوى التهديد بالقتل, ثمّ الى الحد الذي انتقلت فيه أساليب الشتائم الى الفضائيات فيما بينهما... وكلّ هذا أمرٌ طبيعيٌّ, لأنّه ضريبة التبدّلات الجوهريَّة, بغض النظر عن حجم الأذى النفسي والتربوي الذي يتعرّض له المواطن الكريم ... وياعيني على المواطن...