عبدالامير المجر
عندما كانت السيارة التي تقلنا، تشق طريقها في شوارع البصرة القديمة، متوجهة بنا الى قاعة الموانئ الكبيرة، حيث حفل افتتاح المربد (33) الذي عقد هناك قبل ايام، حضرني قول طريف ومعبّر للعالم البصري يونس بن حبيب النحوي، الذي تتلمذ على يديه سيبويه والفرّاء وغيرهم من اعلام البصرة والعراق. كنت قد قرأته له قبل اكثر من ثلاثين سنة، في كتاب بعنوان (شخصيات القدر) يقول فيه؛ (( ثلاثة والله أشتهي أن أمكن من مناظرتهم يوم القيامة ... آدم (عليه السلام) فأقول له : قد مكّنك الله من الجنة وحرم عليك الشجرة فقصدتها حتى طرحتنا في هذا المكروه ... ويوسف (عليه السلام) فأقول له : كنت بمصر، وأبوك يعقوب بكنعان وبينك وبينه عشر مراحل، يبكي عليك حتى ابيضّت عيناه من الحزن، ولم ترسل اليه، اني في عافية وتريحه مما كان فيه من الحزن ... وطلحة والزبير، لأقول لهما : إن علي ّ بن أبي طالب بايعتماه بالمدينة وخلعتماه بالعراق، فأي شيء أحدث! (( .
لقد تخيلت النحوي حيّا ومعنا في السيارة، وقد فارق البصرة دهرا وعاد اليها، كما نحن المدعوون من خارجها، وشاهد اكوام القمامة وخراب الشوارع والفوضى التي شوهت معالم البصرة التي كانت تسمى، ثغر العراق الباسم، والتي تسمى اليوم وقبله، سلة العراق وممولة دولته، بنفطها وغازها وموانئها ونخلها ايضا، وان بدا اليوم اقل مما كان عليه سابقا . لقد تخيلته وقد اضاف سؤالا او اسئلة اخرى، ولكن للمسؤولين والقائمين على ادارة البصرة .. مفاده، ان بينكم او بين القصور الرسمية التي تسكنونها وبين كل هذا الخراب بضع مئات من الامتار، فما الذي حال بينكم وبين اصلاح حال الناس والحياة في هذه المدينة التي يعلن الجمال عن نفسه في كل بقعة فيها، حيث شط العرب والانهار التي تتفرع منه بالعشرات، والنخيل الذي يظلل البيوت والارض المنبسطة التي لاتحتاج الى جهد كبير ولا حتى الى اموال كثيرة تثقل موازنة المحافظة التي يقال ان ما خصص لها منذ العالم 2003 الى اليوم يكفي لاعادة بنائها من جديد؟ .. نعم، فالبصرة العزيزة على نفس كل عراقي وعربي، لما لها من تاريخ كبير، وحاضر يعكسه حجم الكفاءات الثقافية والعلمية والاجتماعية الكبيرة، تعيش اليوم حالا مزريا على مستوى الخدمات والبنية التحتية المخربة، التي جعلتنا نشعر بالحرج امام الوفود العربية والاجنبية التي حضرت المهرجان، وهم يحملون بالتاكيد صورة للبصرة توازي مكانتها في نفوسهم لما قرأوه وسمعوه عنها وعن ابنائها، قبل ان يقدموا ويروا حالها التي لاتسر.
للموضوعية، لابد من القول ان هناك مشاريع خدمية تحققت او في طريقها الى التحقق والاكتمال، بعثت شيئا من الامل في نفوسنا، نحن الذين زرناها سابقا، لاسيما في نهر العشار الذي قد يكون مرفقا سياحيا جميلا، اذا ما اكتمل بعد ان كان مكبا للنفايات، يثير منظره القرف، لكن مشكلة البصرة اكبر بكثير مما شاهدناه، لانها تتمثل باختلاف احزابها وساستها وصراعاتهم الطويلة التي عطلت الحياة في المحافظة وليس في مدينة البصرة وحدها، فالمدينة الرياضية لم تكتمل مرافقها حتى الان، ومعاملها الكبرى كالحديد والصلب والورق والبتروكيمياويات وغيرها متوقفة، وهذا يحتاج الى تدخل من بغداد لاعادة الحياة اليها وتوظيف الالاف من الشباب، بدلا من افتراشهم الارض كباعة للبسطات في بلد يعد من اغنى دول العالم بكثرة ثرواته!.
كان مهرجان المربد مناسبة تحسد البصرة عليه بغداد نفسها، وكان على القائمين على المحافظة ان يكونوا مهيئين لاستقبالها باستعداد يليق بها، لكن الذي وجدناه ان تمثال السياب نفسه الذي يغدو في المربد محجا للوفود، غاب عنه اسم الشاعر والبيت الشعري الذي يتغنى به بالعراق، على الرغم من اعمال الترميم التي طرات عليه، فهل يجوز هذا ياحكومة البصرة المحلية؟.
لقد نجح اتحاد الادباء في البصرة في تنظيم المهرجان، وكان مناسبة رائعة التقى خلالها المئات من الشعراء والمثقفين العرب والعراقيين والاجانب، ممن تغنوا بالبصرة وبالعراق، وكانت الخدمات ممتازة على كل المستويات، والتنظيم يعكس ارادة ثقافية حقيقية لدى البصريين في تقديم هذه المحافظة بما يليق بها، لكن الصورة الجميلة هذه اختطفتها مناظر البؤس التي ماكان لها ان تحصل لولا غياب الارادة الحقيقية للبناء، وغياب العقل المدني الذي يعد الاول في سلسلة فقداناتنا الكبيرة ليس في البصرة وحدها بالتاكيد!.
شكرا للبصرة التي تبقى الاجمل في اعيننا، لانها تحملت معنا ثقل العقود المريرة السابقة، وناءت باحمال تهد الجبال، من حروب وحصار واهمال، ولانها ظلت بالرغم من كل هذا، الام التي ترضعنا الحياة، وان كانت بها خصاصة!.