ربيع الفقراء

آراء 2019/03/19
...

نصير فليح
 

ربيع جديد يحلّ على المدينة، يتفتح في جوار الفقراء والأغنياء على السواء، وكأنه يريد أن يذكّرنا بأنه «مساواتي» بامتياز، أو ربما يريد تذكيرنا بأنه يأتي في الصفحات المعتمة والمضيئة للتاريخ على حد سواء، وان هناك فسحة دائما للتجدد. ولعله يدعونا الى النظر أبعد، الى الحال الذي يمكن ان يكون عليه ربيع البشر إذا ما جاء يوماً، لا ربيع 
الطبيعة فحسب.
الفقراء لا حدائق في بيوتهم عادة، فيذهبون لزيارته في الحدائق قاصدين. او ربما يصادفونه فجأة ايضا، في الفسحات المنسية المحيطة بهم، أو في الصدوع التي تكثر في بيوتهم. فثمة دائماً فسحة لزهرة أو ورقة عشب تتلمس طريقها الى الهواء في غفلة من الزمان.
وهو صديق للفقراء ايضا، في زمننا ومعاناته، فهو اشبه «بهدنة» مع «معركة الكهرباء» المزمنة، وكأنه استراحة ما قبل معركة الصيف، التي سوف يواجهها الملايين من الناس، من غير الأثرياء 
طبعا.
الربيع شبيه كثيرا بالمواليد الجدد. فهؤلاء القادمون حديثا الى مسرح الحياة، تعبّر نظراتهم المندهشة الى كل ما يحيطهم عن انفتاح سؤال وجودهم على كل الاحتمالات المختلفة في حياتهم المقبلة. بلا ذكريات ثقيلة...ولا تصورات أيضاً عن التحديات التي تنتظرهم، عندما يغادرون احضان امهاتهم الى احضان 
الحياة.
ولكن ماذا عن ربيع الضمائر؟ متى تتفتح أزهار الضمائر ايضا؟ لتذكّر آكلي السحت الحرام ان هناك كلمة نسوها منذ أمد بعيد، «الضمير»، الذي يجعل الانسان يخجل من أكل لقمة فقير، وأن لا يعبئ جيوبه الى الحد الذي لا يعود ضميره نفسه مرئياً، عبر اكداس النقود والذنوب.
لعل منطقة الضمائر هذه هي المنطقة الوحيدة التي يستعصي على الربيع زرع شيء من التجدد فيها. فما يمكن ان يجعل ضمير الانسان يتفتح، شاء أم أبى، هو تحطيم تلك الطبقة التي غلفت روحه حتى تبلدت وأمست جثة ميتة. وتحطيم هذه الطبقة، لا يتم من دون خوف من عقاب، ومن دون شعور عام بأن فعلاً كهذا عارٌ على الشخص. وهو ما لا يتطلب منطق العقاب والردع فقط، بل اعادة بناء جديدة للمجتمع والنفوس، تجعل الشعور بأكل أموال الناس مثل بقية المثالب التي ينظر اليها المجتمع باعتبارها عاراً يصعب تحمله، كأي فعل فاحش، يجعل مرتكبه يخشى مواجهة الناس والنظر 
اليهم.
ربما عندما تتحطم طبقة الروح المتبلدة هذه، يمكن عندها ان تعود مادةً حيةً، أرضاً خصبة. وحتى يأتي يوم نرى فيه عملا فعليا بهذا الشأن لا مجرد «وعود وعهود»، سيظل الربيع يزور الحدائق فقط لا الضمائر، وسيظل ما قاله السياب، قبل عقود، صحيحاً: وكلّ عام حين يعشب الثرى نجوع/ ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع.