علي حسن الفواز
فكرة الاحتفال او المهرجان هي حشد الناس على قضية معينة او مناسبة لها عمق وجداني أو وطني أو قومي، وهذا مايجعل هذه الفعاليات تكتسب أهميتها في وضع الناس أمام شغف حقيقي للتعايش والانتماء الانساني، والذي يُعبَّر عنه بطرق وبطقوس تتعمّق مظاهرها في ذاكرة المجتمعات المتعددة والمتنوعة.
النوروز أو عيد الشجرة أو عيد الحرية هي توصيفات لحكاية مثيولوجية عاش العراقيون وشعوب المنطقة عمقها الانساني والاخلاقي والقيمي لتظل خالدة بسفرها وبرمزيتها، لأنها تعني نهاية الظلم والاستبداد وبداية أفق الحرية، مثلما هي تعبير عن بدء سنة جديدة تبدأ باشراقات الربيع وبطقوس الخصب والنور، وهناك من يضع يوم النوروز كعلامة على تساوي الليل والنهار، وكأنه اقتسام اسطوري للطبيعة ولجمالها ولقوة تعالقها بالانسان الذي يزرع ويكدح ويناضل من اجل الخير والكرامة والسلام والحرية.
حكاية كاوه الحداد مع الطاغية الضحّاك سفرٌ متخيّل لرمزية النضال الانساني ضد الطغيان، فهذه الحكاية تحولت الى مروية الى أفقٍ للانسان الشرقي الذي يوقد النار كدلالة على انتصاره، ويحتفي بالحياة كتعبير عن وجوده، وعن سمو قوته الخلاقة التي قهرت الطغيان، مثلما هي تعبير عن قوة الشعب الذي يمثله كاوه الحداد بمواجهة الظلم والشر والاستبداد، وقد حفلت المثيولوجيات طول قرون طويلة على وضع وتكريس هذه الحكاية في وجدان كثير من
الأمم.
فرمزيتها تجاوزت طابعها السحر والحكائي لتكون وكأنها زمن وطني وقومي، له قيمته وله طقوسه التي يحتفي العرب والكرد والفرس والتركمان والافغان، ايمانا بما يوحدهم انسانيا حول رمزية الحق والعدل والحرية، وحول النضال الجامع من
اجلها.
نوروز وعيد الشجرة
منذ الطفولة ونحن نقوم بزراعة اشجار في الشوارع وفي البيوت بهذه المناسبة التي كنّا نعرفها بعيد الشجرة، وكانت الحكومات العراقية ومنذ نشأتها تعلن هذا اليوم عطلة رسمية وطنية، وتدعو الجميع الى المشاركة بها، مثلما يقوم الناس ومن مشاربهم الدينية والاثنية المتعددة للانخراط في احتفالات واسعة، وللقيام بطقوس خاصة، وزيارة الحدائق الكبيرة كتعبير عن علاقة هذا الحدث بالطبيعة وبالإنسان في آنٍ معا.إن عمق هذا اليوم في الذاكرة وفي الوجدان القومي والوطني والطقوسي يؤشر عُمق ما يجمع الناس حول رموز معينة، وحول تشاركهم بعلاقات وافكار وطقوس وعادات، إذ تتحول هذه المناسبة الى عيد وطني كبير، والى مجال يدرك من خلاله الناس قيمة النضال الانساني من اجل الحياة، ومن اجل الكرامة، وحتى في التمثيل الحكائي لها في الصراع مابين العامل كاوه والطاغية الضحاك، فإنها تستلهم رمزية العمل كقيمة انسانية عليا، وللكدح والكفاح الذي يجعل من سيميائية هذا العمل جوهرا في النضال الانساني وفي التعبير عنه والتضحية من اجله. ما نطمح إليه ونحن نحتفي بالنوروز ونشارك شعوب الشرق بهذه المناسبة هو توقنا لأن تتحول الى فضاء انساني تتعمّق فيه معاني الحوار والمشاركة في ما بينها، وعلى نحوٍ يعزز مسار القيم الجامعة بينها بعيدا عن غلواء التباغض والكراهية والاستبداد، إذ تتحول الاحتفالات بايام النوروز أو بسنته المضيئة الى شعلة للحياة ولاضاءة المستقبل، فالظلمة هي الخوف وهي العزلة، والنور هي الحرية والمشاركة والتواصل، وهذا ما يجعل احتفاء العراقيين السومريين بمثيولوجيا النوروز كتعبير عن انحيازهم لفكرة الضوء، ولولادة زمن جديد تصنعه القوة الخلاقة التي ترتبط بفكرة العامل كاوه، بوصفه عاملا طقوسيا وصانعا للشعلة الخالدة، تلك التي فضحت ظلمة الاستبداد وانارت للناس طريقهم للحياة، وهذا مايجعل شعلة كاوة السومري قريبة من شعلة برمثيوس الذي اخذ النار من آلهة الظلمة لينير بها طريق الحكمة والمعرفة، وليمنح الناس فرصة لرؤية العالم ولزراعة الارض بوصفها علامة على بدء الخصب والربيع والحياة الجديدة.