الطقوس والتداعيات الذهنيَّة في ملحمة جلجامش
فلكلور
2022/05/12
+A
-A
جاسم عاصي
تعد ملحمة جلجامش، نصاً شعبياً، من اعتبار تداوله في المناسبات والأعياد التي كانت تقام من خلالها الطقوس والشعيرات، إذ تسود أحداث ونصوصُ فصولها دكة المسرح والشوارع والساحات. وبهذا اكتسبت شعبيتها باقترابها من هموم الرعايا في اوروك أو سواها من الحواضر التي انتقل إليها النص، فهي بحق نصٌ شعبيٌ، لأنه وازن بين تناول حياة الملك والحاضرة وإشكالات رعايا أوروك وأصبح جزءاً من خزانة الكتب والوثائق آنذاك، أنها تتناول صراعات الإنسان مع نفسه، ومع القوى القاهرة، وتحكي عن قصصهم ولوعتهم، وما يعاملونه جراء الحيف الواقع عليهم.
وفي النص، ما كان يعانيه رعايا أوروك من الظلم الاجتماعي، والسياسي، مصدره الملك (جلجامش). وما استجابة الآلهة في خلق نظيره (أنكيدو)، إلاّ تلبية لحاجة الرعايا ورغبتهم في الخلاص . فقد تمثلت مشاهدها عبر أدائها وتمثيلها، وإلقاء مقاطع من شعرها، مصحوباً بحركات وإيماءات، كانت أولى جذور المسرح في العراق القديم . ولعل هذا السبب من بين الأسباب العامة والذاتية الكثيرة، التي وفرت للملحمة صفتها ومكانتها الشعبية باقترابها من الرعايا. إن معالجة حيثيات الناس، لا سيما رعايا أوروك الذين استغاثوا إلى الآلهة لوضع حد لسياسة الملك (جلجامش )، خاصة ما كان يثير حفيظتهم بصدد الذهاب بأطفالهم إلى معسكرات التدريب، فقد كشفت عن محتوى المعبد من محظيات وغلمان يساهمون في طقس الزواج المقدس داخل المعبد ويؤدون وظائفهم داخله، وهو من الطقوس الشعبية. يضاف إلى هذا كون محتوى الطقسية التي حولت (أنكيدو) من مخلوق بري، إلى مؤنسن أسهمت فيها طقوس منها المواقعة مع شمخت والحرث في جسدها بطقسية جنسية ذات صفة شعبية.
ولعلَّ علاقة (ننسون) بـ (انكيدو) كان عبر طقس التبني ــ الأمومة ــ وهي توصيه بولدها في رحلته إلى غابة الأرز. وهي في مجملها طقوس احتفالية أسهمت في تصعيد عنصر المشاركة من قبل أنكيدو في فعل التغيير على صعيديه المادي والفكري، ونعني فيها تغيير بنية الملك الأخلاقية والفكرية عبر تغيير ممارساته، إلى حد الاقتراب من الرعية، أو شعب أوروك. ويمكن اعتبار تبني أنكيدو لحماية ممتلكات الرعاة والسهر على مواشيهم لهو دليل على ممارسة طقس اجتماعي ــ شعبي ، يدخل في باب مشغولات الناس وتأسيس علاقاتهم ، عبر العمل الجماعي والتضحية.
وما قام فيه أنكيدو، هو من ضمن الفعل الاجتماعي الشعبي، الدال على شهامة الرجل . كذلك يدخل في هذا الباب طقس ما قامت فيه (سيدوري) صاحبة الحانة، حيث بدت أمام جلجامش امرأة ذات سلطة معرفية، فقدمت له النصائح المتعلقة بالخلود والبحث. أي أنها شاركت على وفق منظورها المعرفي الشعبي الذي اكتسبته من وجودها في موقع مفترق الطرق ، حيث تستقبل الراحلين والمسافرين، مما أكسبها رؤية واسعة للحياة ، فكان اسداؤها للنصح لجلجامش ، دليل خبرتها الاجتماعية الشعبية أي تقديم المعرفة المكتسبة في حضرة الملك ، وهي من باب النصائح التي تعتمد على تجارب شعبية ذات بنية جماهيرية، فهي القائلة:
{إلى أين ذاهب يا جلجامش/ إن الحياة التي تبغيها سوف لا تجدها/ عندما خلقت الآلهة البشر فرضت عليها/ الموت / واحتكروا الحياة في أيديهم/ وأنت يا جلجامش اجعل بطنك مملوءة/ وكن فرحا ليلاً ونهاراً واعمل طربا في/ كل يوم/ رقصاً ولعباً ليلاً ونهاراً ولتكن ملابسك نظيفة/ ليكن رأسك مغسولا ولتستحم بالماء}.
ولعل التفسيرات التي قدمتها الأم (ننسون)، تندرج في مجال التفسير الشعبي أيضاً، في البحث عن القرين المادي والشخصي كدلالة على المعنى المرتقب، والمراد فيه تغيير بنية الملك، الذي يتوجب أن يكون مطابقاً لرؤية الواقع حيث احتوت على إشارات تحذيرية للملك من مغبة التمادي في غيـّه. يبقى الدليل الأخير على اعتبار الملحمة نصا شعبيا، هو قدسية الرقم سبعة ، فهو يتطابق مع المفهوم المثيولوجي في الأديان والأساطير، في كونه ذا دلالة كونية، في خلق الكون. والذي انسحب إلى مجمل الطقوس الشعبية، فاكتسب قدسيته من دلالته في كل حيز مكاني وزماني. ثم طقس حزن جلجامش على موت أنكيدو، فقد كان عبر قص شعر الرأس، واختيار لازمة لمندوبة خاصة، يرددها بالقرب من جثمانه ولسبعة أيام.
إن كل الدلالات تضع الملحمة في مصاف النصوص ذات الصلة المباشرة بمجموع الناس، في كل زمان ومكان، وهي جزء من ثقافتهم الشعبية. وأعتقد أنها وغيرها أيضاً ساهمت في ظاهرة تداولها عبر كل العصور والأزمنة، لأنها اكتسبت صلتها بالقاع الحياتي، من مدلولها الشعبي الخالص. ولنر مستوى الطقسية التي أتت عليها مفاصـــل الملحمة.
فعند طقس استمالة (شمخت) لـ(أنكيدو) ، كانت العبارات التي رددها النص كالآتي:
{كشفت شمخت المحظية عن صدرها/ وكشفت جسمها العاري، وتملك الوحش مفاتنها/ خلعت ملابسها واستلقى عليها/ وجعلته يمارس عمل المرأة/ وضغط صدره بقوة على ظهرها/ وبقي انكيدو مواصلا ًالمحظية شمخت لستة ايام وسبع ليال}
هذه الشعيرة كشفت عن الطقس الجنسي، الذي هو دالة على توصل معرفي للطرف الوافد إلى الحاضرة. وشمخت من هيأ لمثل هذا الطقس الشعبي، الذي هو جزء من الزواج المقدس، متمثلا ً في (الطقس المقدس). أما بصدد التغيير الذي حدث في حاضرة أوروك، فإنه أيضا ً تمثل الطقسية الشعبية، حيث أشارت الملحمة إلى ذلك لتأكيد شعبيتها كما هو واضح في مثل:
{حيث صار كل يوم عيدا/ حيث الناس يتلألؤون بملابس العيد/ حيث الصبيات في العيد/ والمحظيات..../ الفاتنات المزوقات الممتلئات بهجة}
هذا الوصف يبدو خالص الدقة في عكس مباهج رعايا أوروك ، بعد أن شهدوا انفراجا ًفي سياسة الملك، أما بصدد الأحلام باعتبارها أُمنيات مؤجلة يخزنها العقل الباطن، فإنها تشي بمدلولات إيجابية ساهمت في رسم الصورة الصحيحة لسلوك الملك جلجامش، على اعتبارها مؤشرات لمفاهيم كفيلة بتغيير الحياة، ولأنها لصيقة بأحلام الرعايا أصلا. مما يضيف إيجابية لورود هذه الأحلام في الملحمة، فمثلا ً كانت ( ننسون ) تفسّر الحلم أمام ولدها، لكي تمنحه التوازن النفسي. بمعنى تعالج العقدة التي أسست أفق القلق الذي ينتابه. ودليل هذا تعلقه بالتفسير، ومن ثم بلقاء أنكيدو.
{نينسون الحكيمة العارفة كل شيء، قالت لجلجامش/ إن الفأس التي رأيت هو رجل/ وأنت انحنيت عليه كأنه امرأة/ وجعلته الرفيع المعادل لك /هو الرفيق القوي الذي ينقذ الصديق}.
في هذا نجد مرميين، هما: توفر الحلم على أنه طقس له علاقة بالمفهوم الشعبي كذلك دلالته لخلق التوازن عبر التفسير، أي أن هنالك هدفا سياــ اجتماعي، يتركز في إحداث نوع من الموازنة النفسية. غير أن كل ذلك مرتبط بالطقسية التي يمارسها الإنسان، والتي تطرح مفاهيم ورؤية اجتماعية شعبية. وهذا ما يشمل كل أحلام جلجامش، والتي تكشفت أمام الأم ننسون، فكان التفسير إضافة نوعية بصّرت جلجامش الذي امتلك استعداداً للتغيير.
أما الحلم الذي سرده لأنكيدو وهم في طريقهم إلى غابة الأرز، فقد كان دالا على القلق والخوف والتوجس من الدخول إلى الغامض
والمحذور.