جميعُ المنتصرين خاسرون!
آراء
2019/03/22
+A
-A
محمد الحداد
«سامحني يا نابليون العظيم لأني دحرتُ أمتكَ وألبستُها عارَ الهزيمة..ولكن لا يخفى عليكَ أن أمتكَ كانت مشغولة بقياسِ أزياءِ النساء والتفاخر بالعطور بينما كانت أمتي مشغولة بأخذِ قياسِ فوهاتِ المدافع والبنادق».
هذهِ إحدى أشهر المقولات المنسوبة لهتلر والتي يحلو للبعضِ أن يوقظها باستمرار من سُباتها الباردِ الطويل النائم في مخدعِ التاريخ..والشائعُ من تلك الروايةِ المتداولةِ بكثرة أن هتلرَ تفوهَ بتلك الكلمات وهو يقفُ أمامَ قبر نابليون بونابرت بعد احتلال الألمان لباريس سنة 1940 اثناء زيارةٍ رمزية لها لم تستغرق أكثر من ثلاث ساعات تجولَ فيها هتلر في باريس وعرّجَ على دار الأوبرا وقوس النصر وبرج إيفل وغيرها من الأماكن..لكن مرورهُ على ضريح نابليون بالذات ووقوفهُ أمامَ قبرهِ تماماً كان لهُ دون شك طعمٌ آخر مختلفٌ تماماً..ولعلهُ كان أحد المواقف الكبيرة التي حجزتْ لها مكاناً مهماً وسط ما امتلأتْ بهِ ذاكرة حروب هتلر العبثية التي أغرقتْ في حينها كوكبنا المسكين بالدماء..لكن ما أريد الوصول إليهِ تحديداً أن تلك الوقفة الهتلرية جاءتْ لتسجلَ بشكلٍ قاطع ومن دونِ لبسٍ نصراً فصيحاً للألمان في مقابل هزيمة فصيحة مماثلة للفرنسيين وهي ميزة نادرة كانت تتصفُ بها أغلب حروب الأمسِ البعيد ولم يعد لها أيُّ حضورٍ في واقعنا الحالي مطلقاً.
أعرفُ أن كلماتٍ فخمة مثل تلك المنسوبة لهتلر والتي ابتدأتُ بها مقالتي تصلحُ مادةً دسمة للاستهلاكِ الانساني في كلِّ مكانٍ وزمان..ربما لأنها تجبرُ قارئها على التوقفِ عندها وقفة تأملٍ واعتبار..ولو قارنّا تلك الكلمات القليلة المنثورة فوق قبر نابليون بكلماتٍ مماثلة دأبَ هتلر كثيراً على اطلاقها في مناسباتٍ متعددة لبدت لنا كحباتِ رملٍ ضائعة وسط صحراءٍ شاسعة.
ثمة في تلك الكلمات أيضاً رسالة تشفٍّ متعالية وإن لم تُبحْ نفسها بوضوح لكن العقلَ لا يخطئها أبداً أرسلها الطرفُ المنتصر «هتلر» إلى خصمهِ المهزوم «نابليون» وصلتْ لغتها فصيحة دونَ لبس..والحقيقة أن الذاكرة الانسانية على وسعها تظلُّ بحاجةٍ متجددة لومضاتٍ خاطفة تطلقها أحياناً أحداثٌ ومواقفُ ملفتة كهذهِ تجبرُ محركاتِ الخيالِ على العمل..ولكي أكون دقيقاً فإن الذي لفتني من تلك الرواية ليس فقط ما تثيرهُ كلمات هتلر «على قصرها» في النفسِ من مشاعر متناقضة تختلط فيها فخامة وبلاغة الكلمات بالكثيرِ من هيبةِ وجلالِ الموقف..لكن ما لفتني تحديداً هو تلك الرمزية الزمكانية لوقفةِ هتلر التاريخية هذهِ أمام قبر نابليون والتي حملتْ معها دلالاتٍ رمزيةٍ عميقة ولافتة جداً بشكلٍ ربما يفوقُ دلالة الكلمات..وقفة كهذهِ لوحدها تغرفُ بترفٍ من سيمائيةِ الصورة الشيء الكثير شئنا أم أبينا..وتطلقُ العنانَ عالياً للعقلِ كي يحظى بما يستحقهُ من التقاطاتٍ رمزية عميقة نعرفُ أن التاريخَ يضجُّ بها حدَّ الامتلاء..ويبدو لي أن ذلك كلهُ مُجتمِعاً أهّلَ تلك الرواية التاريخية لكي تقاوم الاندثار وتنتصرَ على النسيان..لذا ستظل تحملُ معها بريقاً متجدداً يتحايلُ كثيراً على صدأ الذاكرة العنيد.
كم تمنيتُ لو أن ستائرَ الغيوبِ فُتحت قليلاً وأباحتْ لنا سماعَ رد نابليون لهتلر هذهِ المرة..لكن ربما لو جازَ لي أن اُعملَ الخيالَ قليلاً فسأفترضُ أنهُ قال له: «لا تفرح كثيراً بنصركَ سيادة الفوهرر لأنك ستلحقُ بي بعد بضعة أعوامٍ فقط وستتذوقُ بعدي ما سبقتكَ به إلى تذوقهِ من مرارةِ الهزيمة..لقد حظيتُ على الأقل بقبرٍ معلوم يتوسط ضريحاً فخماً في قلبِ مدينةٍ ستبقى رغم أنوفِ أعدائها عاصمةً للنور وسيظلُّ العالمُ بأسرهِ يحلمُ بزيارتي..لكن تأمل بعينيكَ خارطة هذا العالم الرحيب الذي سعيتَ لابتلاعهِ وحدك..هل ترى امتداده واتساعه؟لن يتسنى لك أن تمتلك فيهِ ولو بضعة أمتارٍ تصلحُ أن تكون قبراً يتسعُ لجثتكَ ويخلدُ تاريخكَ ويذكّرُ العالمَ بكَ من بعدك».
ربما هكذا كان الردُّ النابليوني إذن..نداً لندٍ وبنفس لغة التشفي المتعالية..طالما كانت الوقفة هي ذاتها والموقفُ والكلمات..لم لا والحربُ سِجالٌ بين الغريمين..قبل الموت وبعدهِ أيضاً حتى لو سُعّرَتْ تلك الحربُ بكلماتٍ افتراضيةٍ لا يمكن أن تسمعها الآذان إلا داخل مملكةِ الخيال الواسعة وتحت سطوةِ سلطتها فحسب.
لكني بعد ذلك كلهُ لا أخفيكم أن في نفسي كثيراً من الشك سيظلُّ يحومُ حول صحة ما وردَ في الروايةِ من كلماتِ هتلر تحديداً كعدم ثقتي بمجملِ التاريخ الذي تكتبهُ أصابعُ المنتصرين..أما الزيارة ذاتها ووقوف هتلر أمام قبر نابليون فلا أملكُ حقَّ تكذيبها لأنها مثبتة تاريخياً..لكن حتى لو أسقطنا تلك الكلمات من تفاصيلِ الرواية فستظل تلك الوقفة الهتلرية لوحدها كافية لتأكيد ما أردتُ الوصول إليهِ وهو أنها رسمتْ لنا بوضوح إحدى أهم السمات الشائعة لحروبِ الأمس والتي كانت تعكسُ غالباً ثقافة النصر الفصيح في مقابلِ الهزيمةِ الفصيحة..تلك السمة التي يبدو أنها في طريقها إلى الانقراضِ التام في عصرنا الحالي..مثل هذهِ الحقيقة تلحُّ عليَّ كثيراً وأنا أراقبُ عن كثبٍ حروبَ هذهِ الأيام بكل غرائبياتها وأهوالها والتي يمكن أعتبارها رغم كل بشاعتها مقدمة تقليدية فقط لفوبيا لامتناهية مفتوحة على سيناريوهاتٍ كارثيةٍ يبدو أنها قادمة نحونا لا محالة وربما ستستحدثُ قوانينها الجديدة لاحقاً وسط ميدانِ الأحداث.
لا يمكنُ للحروبِ القادمة بكل تفاصيلها أن تكون تقليدية أبداً..لايمكنُ لها أن تشبهَ كل حروبِ التاريخ وصراعاتِ الجغرافيا وتناطحِ العروش ومعاركِ التنافسِ العالمي المحموم حول المالِ والاقتصاد وما إلى ذلك..لأن حروبَ الغد هذهِ ستمتلكُ خصوصية مختلفة تماماً كما أن غنائمها وثمارها لا تشبهُ تلكم الغنائم والثمار أيضاً.. لن يحظى الخصوم المنتصرون بوقفةِ تشفٍّ وثأرٍ أمامَ قبورِ أعدائهم كتلك التي أتاحتها ظروفُ حروبِ الأمس لهتلر أمام قبر نابليون ولن يجدوا وقتاً يسعهم لفعلِ ذلك أساساً..بل ربما لن يعودَ بوسعِ طرفٍ بعينه أن ينعمَ بمتعةِ النصرِ الكامل أو يتذوقَ نشوةَ الاسئثارِ بمغانمهِ على حسابِ الأطرافِ الأخرى المتصارعة.
بالتأكيد ثمة أسبابٌ كثيرة ستفضي لهذهِ النتيجة المفترضة «وأعني بها انتهاء عصر النصر الفصيح والهزيمة الفصيحة» ربما يقفُ في مقدمتها أن موازينَ القوى للأطرافِ المتناحرة لن تكون متفاوتة كثيراً كما كان يحدثُ في أغلبِ الحروبِ التقليديةِ التي ألفها سكانُ هذا الكوكب بل ستصبح تلك القوى متقاربة ومتماهية جداً حدَّ الالتباس.
أقولُ هذا الكلام وأنا أعلمُ يقيناً بأن المناجمَ البِكر لأرباحِ وغنائمِ حروبِ الأمسِ القديمة لن يجفَ نبعها أو يتعكرَ صفو مياهها تماماً لكن تلك الأرباح والغنائم ستبدو لاحقاً تقليدية جداً وخالية من كل دسامتها المعهودة وسيغدو الاصرارُ على الجري خلفها فيهِ نحواً من غباءٍ عقيم وبوسعنا القول أن تلك إحدى سمات الحروب المقبلة أيضاً ولا غرابة في ذلك أبداً فحتى غنانم الحروبِ تتغيرُ مع الوقت.
كل هذا المعطى يجعلني أخلص أخيراً إلى حقيقةٍ بتُّ أؤمنُ بها كثيراً وهي أن ثمة سمةً بارزةً في حروبِ هذا العصر والحروبِ القادمة أيضاً وهي أنَّ جميعَ المنتصرين فيها خاسرون..عصرُ الغالبِ المحض والمغلوبِ المحض في حروبِ الماضي البعيد يبدو أنها انتهت إلى الأبد..تلك الحروبُ التي كانت لا تضعُ أوزارَها إلا بعد أن تُقرع فيها أجراسُ النصرِ لخصمٍ أقوى وأوحد..ذلك الذي يستأثرُ لنفسهِ باطلاقِ رصاصة البقاءِ الأخيرةِ التي تُزغردُ بنصرها الفصيح فوق رؤوسِ أعدائهِ أو يُسجلَ لنفسهِ في ذاكرةِ التاريخ وقفةً أمامَ قبورِ أعدائهِ أو ما تبقى من جثثهم وأشلائهم!.