قلتها أنت يا سيدي “عطش صبَّير ولا فركاك” وكلُ عاشقٍ للنواب يرددها اليوم على نعش الخلود، على جثمان الثائر، على روح الشاعر، الشاعرُ الذي طلق بالثلاث لهجة الكواظمة البغداديَّة، ليراقصَ القصب بلهجة أهل الهور وكأنه البلبل الجنوبي الذي لا تضاهيه جميع بلابل الكون حين يصدحُ بموسيقى الطين ومفردات أهل الصرائف، كيف استطاع ابن المقام أن يرفدنا بكل تلك الملاحم الشعريَّة الشعبيَّة الخالدة التي جعلت كبار الشعر الشعبي في العراق يبايعونه كملكٍ وزعيمٍ ورائدٍ للشعر الشعبي الحديث.
دعونا نعرف من هذا الملحمي سرَّ الصورة وجسر الدهشة وجناح الفراشة الغض الذي حلّق به صوبَ سماء البردي وفضاء أغاني الطيور: “اشگد نده نگط عَالضلع.. ونسيت أگلك يمته.. اشگد رازقي ونيمته.. واشكثر هجرك عاشر ليالي الهوى وما لمته.. انته السحنت الليل بگليبي.. وگلت موش أنت”؟
عاشق الهور
من يسمع تلك الكلمات من دون معرفتها مسبقاً، سيحيل مرجعيتها بالتأكيد الى جنوب العراق، ويجزم وبما لا يقبل الشك بأنَّ كاتبها هو شاعرٌ مولودٌ من رحم تلك الأرض وعاشَ طفولته فيها، وأتقن لهجتها. ولا يجيد تلك الحبكة الشعريَّة، إلا شاعرٌ من أبناء الهور، لكنها وكما يعلم جميع من عشق قصائد مظفر النواب، بأنها مقاطع من قصيدته “يا ريحان”.
والنواب كما هو معروفٌ ابن الكاظميَّة، ولد ودرس وشبَّ فيها، يرتدي زي ولهجة وطقوس العاصمة، بحذافيرها، بل تعدُّ لهجة مدينة الكاظميَّة التي ولد وعاش فيها متميزة بنطقها بين مناطق بغداد.
هنا تقف علامات استفهام كبيرة على طاولة الاستفسار مفادها، كيف استطاع النواب أنْ يجلسَ على عرش مملكة الشعر الشعبي العراقي كسلطانٍ له، من خلال عشرات القصائد الرائعة التي كتبها بتلك اللهجة الصعبة، التي يقول عنها الشاعر الكبير ادونيس في حوار أجريته معه: “إنها من أصعب اللهجات العربيَّة على الإطلاق، الى درجة أنَّي سألت النواب حين أهداني ديوانه الريل وحمد عن كلمات كثيرة لم أفهمها”.
هنا يأتي الردُّ من السلطان في حوار أجرته مجلة “المدى” العراقيَّة الصادرة في دمشق معه مطلع تموز 1995، قائلاً: “في فترة 1956 كنا ضمن دورة ضباط احتياط، إذ التحقنا الى منطقة السعديَّة في ديالى٬ والدورة ضمتْ شخصياتٍ لها دورٌ في الحركة الأدبيَّة والفنيَّة في العراق، مثل صلاح خالص ويوسف العاني وقادة حزب البعث من أمثال علي صالح السعدي والخشالي، دُعينا من قبل أحد طلاب الدورة وهو طبيب بمناسبة العيد إلى محافظة العمارة، وكان معي صلاح الذي أُعْدِمَ ويوسف العاني وإبراهيم كبة٬ وأقام لنا والد الطالب سهرة على نهر الكحلاء حضرها أشهر مغني الهور.. كريري وجويسم وسيد فالح”.
بول روبسن
يؤكد النواب: “لأول مرة أسمع هذا الغناء، وهو غير الذي يبثُّ من الإذاعة.. كل شيء ساحرٌ وآسرٌ أدى إلى التصاقي بعاميَّة العمارة٬ كل شيء منتشٍ بطبيعة الغناء.. (المحمداوي) من جويسم، و(كرير) شخصيَّة آسرة٬ له مجموعة من الدفوف٬ يبدأ يغني حتى يصلُ صوته عمق الهور. ينقل لك الهور وأنت هنا. صوته أشبه بصوت (بول روبسن *) عميق جداً.. (جويسم) صوته رقيقٌ جداً ناعمٌ يملكانك حين تسمع صوتهما هو وسيد فالح، ومن أصواتهم وغنائهم أحسست بالغنى الموجود في عالم الهور وأبعاده والحزن الذي فيه والشجن والمعاناة والفرح، وتولدت عندي رغبة شديدة أنْ أشاهدَ هذا العالم”.
يضيف النواب “بدأ عندي نوعٌ من النفرة من شعر عاميَّة المدن، لأنَّه ساخر، ناقد ليس فيه صورٌ، صادف في تلك الفترة تعرفي على عبد الرحمن الشمسي *، من تلك المنطقة، وكان يلقب بـ”بلبل الجامعة”، وهو من قبيلة الشموس التي تقطن أهوار العمارة، يملك صوتاً جميلاً هائلاً، وكان يغني في حفلات الجامعة، لذا طلبت منه أنْ نذهب إلى الأهوار هناك سويَّة حيث أهله وعشيرته، فسحرني القصب والطيور واللهجة الجنوبيَّة بتنوع وغنى مفرداتها”.
عجينة حيَّة
اكتشفت مفتاح السر والسحر الذي ألهم النواب.. الشاعر البغدادي، ليطلّق لهجة قومه وبيئته ويتكلم بلهجة أهل الهور شعراً، لتصبح قصائده أغاني خالدة في أرشيف الفن العراقي والعربي. كيف تسنى له أنْ يحاكي لهجة الهور بمواويله ومشاحيفه وبرديه وجواميسه وصرائفه وطيوره٬ من أين أتى بالبنفسج؟ وحن وآنه احن؟ وصويحب من يموت المنجل يداعي؟ وغيرها.
هذا ما يبينه النواب في حوار صحفي مع جريدة “الحياة” اللندنيَّة، قائلاً: “استمعت لكريري وجويسم وسيد فالح، فذهلت فعلاً بغنائهم، وتكشف لي عالمٌ مهملٌ، لكنه مليء بالجمال يمكن أنْ يسدَّ حاجة كبيرة في إمكانيات الخلق لدي، جعلني أنفر من عاميَّة المدن، كما لو وجدت طينة معجونة جيداً ومخمرة جيداً لتصنع منها تمثالاً.. عالمٌ مختمرٌ، بما فيه من الطين والماء والقصب وأصوات الجواميس، أمام عجينة حيَّة تماماً تنتظر أحداً ممن لديه فهمٌ للمعاصرة الشعريَّة الحديثة، لينتبه إليها وليشتغل على المادة الخام الهائلة التي لا تنضب منابعها، كما كتبت عن مناطق الهور من قصائد.. لكن إلى الآن أشعر أنني لم أعمل شيئاً نهائياً، هذا العالم المختمر يكفي كمنبعٍ لأعمالٍ إبداعيَّة هائلة”.
وبيّن النواب أنَّه من البديهي أنْ يحارب الديكتاتور الطبيعة في الأهوار ويقدم على تجفيفها لكون القبح دائماً في حربٍ مع الجمال.
في يوم رحيلك بل خلودك يا سيدي لا أملك غير أنْ أقول وعذراً لصويحب:
شجايبلي خبر خايب يهالساعي
لا تشمت عذولي بدمعة الناعي
هذا المرعب السلطة والاقطاعي
مظفر من يموت البلبل يداعي
* عبد الرحمن الشمسي: شقيق سميرة مزعل أول مصورة وأصغر معتقلة شيوعيَّة في ميسان
* بول روبسن هو المغني والممثل الشيوعي الأميركي الذي اشتهر بصوته الرخيم ومناهضته للعنصريَّة.