د. علي حداد
اختطَّ الشاعر الكبير مظفر النواب لقصيدته الشعبية ـ وهو يؤسس لها مضامينها، وما اكتنزته من سمات تمثل تعبيري وتشكل جمالي ـ طريقاً معاكساً للمسار الذي كانت عليه سيرورة القصيدة الشعبيَّة العراقيَّة الحديثة تلك التي قدّر لها ـ في الغالب عليها ـ أنْ تفدَ من الجنوب ومن الفرات الأوسط باتجاه العاصمة (بغداد) ـ مؤداة على مواهب وألسنة شعراء تلك المدن، لتفرض وجودها المعبر عن انهماك شعوري يلتحف هموم إنسان تلك البقاع وخوالجه والتكيّفات اللهجيَّة وجمالياتها التي تبثها في إيقاعها وموسيقاها.
لقد غادر النواب (بغداد) مجبراً ـ وفي مشتبك من معاناته الفكريَّة والسياسيَّة ـ نحو ريف الجنوب وأهواره، وقد استحوذت على وعيه وشخصيته رؤى ابن المدينة وثقافته، ومعهما موهبته الشعرية الفياضة. وهناك ـ في أعماق الأهوار التي تباسط مع إنسانها وعايش ظروفه ـ شرّع النواب حواسه لتلقي بث تلك البيئة في مشغلاتها الذهنيَّة وانهماكاتها الشعوريَّة، وفي طرائق الأداء اللهجي، فتخيّر ما تناهى إلى ذائقته من مفردات دسّها بين طيات معجمه الشعري، ليعيد تشكيلها بتضافر دلالي وترسم ذهني خاص واستنطاق مجازي يضعها في مرتسم دلالي تخييلي لم تكن السجية الشعبية ـ ببساطة ما تمتلكه من مثاقفة ـ لتصل إلى ذلك الذي تصنّعه النص (النوابي) وهو يستثمرها متماهية مع قدرات الشاعر المعرفية وسجالات وعيه، فيعيد إنتاجها في تعالقات معانٍ وسياقات بوحٍ لم تكن ـ في أصلها ـ بذات التشكل، مثلما لا تجدها عند سواه من الشعراء الشعبيين، إذ هي عنده نسيجٌ من المزاج التعبيري والاستدعاء المعجمي المكرس في ثيمات دلاليَّة تخص النواب وحده.
من خلال ذلك كله جاءت قصيدته الشعبيَّة مفعمة بالوعي والذهنيَّة المكتنزة والعاطفة الشجيَّة، ولغة المجاز التي تثير التلقي وتوجب عليه استجلاب مدركات قرائيَّة وتأملات عالية الاستظهار، لتتمكن من اجتياز السطح المعلن للمفردات، وصولاً إلى عمق الدلالة التي تنشدها جملة النص وسيرورة تكويناته.