في قصيدته الشهيرة، المعروفة بـ”لاميّة العجم”، يصعّد الطغرائي من اعتداده بنفسه بطريقة أخّاذة، حتى يبلغ البيت الذي يقول فيه “حب السلامة يثني همّ صاحبه.. عن المعالي ويغري المرء بالكسل”، لكنَّ البيت الأقوى في تصويره الاعتداد بالذات، هو.. “فإنَّما رجلُ الدنيا وواحدها.. منْ لا يعوِّلُ في الدُّنيا على رجُلِ”.. ولعلَّ الطغرائي يريدُ أنْ يخلص الى القول، بأنَّ واحد الدنيا، ليس بالضرورة أنْ يكون واحداً في العدد، بل في القيمة، على غرار البطل، لأنَّ البطولة فعلٌ إنسانيٌّ لا يُختزلُ بشخصٍ واحدٍ، فكل صاحب موقف بطولي هو بطلٌ، وإنْ تعددت المواقف والأبطال!
مطلع القرن الماضي، كانت البلاد العربية غارقة في الجهل والفقر وتفتك بأبنائها الأمراضُ، وكان هذا ناتجاً طبيعياً لقرونٍ من الضياع والتيه الذي أتى على خلفية انهيار الدولة العباسيَّة، وتشرذم الأقاليم العربيَّة، وصولاً الى الاحتلال العثماني الذي استمر لنحو ستة قرون، قبل أنْ يسلمها حطاماً الى الاحتلال البريطاني مطلع القرن الماضي. والأخير كان فرصة حضاريَّة للالتحاق بالحداثة والتنمية، على الرغم مما رافقه من إجراءات، أبرزها تضييعه على العرب فرصة إقامة دولة واحدة أو موحدة في المشرق العربي، بعد أنْ جاء التعاون مع الانكليز ضد العثمانيين، على هذا الأساس!
كان ذلك درساً يجب أنْ يُقرأ باهتمام، بعد أنْ توفر للنخبة العربية المتعلمة فهمٌ نسبيٌّ للعمل السياسي، لعلَّ من مخرجاته، التمرد على وصاية المستعمر وإقامة الدول المستقلة، في النصف الثاني من ذاك القرن.. لكنْ، وبعد انتقاد الأنظمة الجديدة لمن سبقتها، بسبب اطمئنانها لحماية الدول الكبرى، حينذاك، بريطانيا وفرنسا وغيرها. انقسمت هي نفسها من جديد بين الكبار الجدد، الاميركان والسوفييت أيضاً، ووضعت جميع بيضها أو أغلبه في سلالهم، تحت تأثيرات عقائديَّة أو مصالح بينيَّة، من دون أنْ تعمل على مشترك ستراتيجي، يوفر قدراً من التكامل الذي يمنح الدول استقلالية منتجة، ولو نسبية. ولعلَّ أهم ما كان يجب أنْ يحصل، شكل من اشكال التكامل الاقتصادي يفضي الى موقف سياسي رصين وقوي، لكن للأسف.. فمثلما ضاعت فلسطين في زمن الوصاية والاستعمار المباشر، صارت الخلافات مدخلاً لانكسارات جديدة ومتلاحقة، بدءاً من حرب العام 1967 وما تلاها من نكسات، حتى آخرها الذي نعيشه اليوم، وهذا ناتجٌ عن التعويل المبالغ فيه على الداعم الخارجي، واليقين الخادع انه الحليف المؤتمن.. فهل كان العرب ضعفاءً اقتصادياً ليستجدوا القوة من الآخرين؟ الحقائق تقول إنهم الأقوى بين الأمم بما يمتلكونه من ثروات، ولديهم أيضاً الثروة البشريَّة، والموقع الستراتيجي الذي تتهافت عليه الدول كبيرها وصغيرها، فلماذا لا يفعّلوا أسباب القوة هذه، بدلاً من التشرذم والإحساس بالوهن الذي كان يعتري كل نظام على حدة، ويدفعه الى الارتماء بأحضان من كان يظنهم حماة وحلفاءً؟ نعم، ضيّعت الأنظمة العربيَّة الكثير من الفرص التي كان من الممكن أنْ تجنبنا المنزلق الخطير الذي وصلنا إليه، في عالمٍ لا يحترم الضعفاء ولا يرحمهم أيضاً.
اليوم، وبعد قرارات ترامب الأخيرة، سواء في اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل أو إهدائه الجولان لها، ما زال الحكام العرب يتصرفون وكأنهم لم يقرؤوا تاريخهم جيداً، أي إنهم يعتقدون أنَّ أميركا ترامب أو الروس وغيرهم، سينظرون في توسلاتهم بما يسمى القرارات الدولية الخاصة بفلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى، ويعيدونها إليهم، وهم في وضعهم الواهن هذا. ترى متى ندرك، أنَّ غيابنا الحضاري طال أكثر مما يجب، وأنَّ علينا أنْ ننتبه لمجهوليَّة المستقبل الذي ينتظرنا؟
ما يؤلم حقاً، إنَّ وحدة الجامعة العربية نفسها، باتت اليوم مرتهنة بيد الآخرين أكثر من أي وقت مضى، ومقررات قممها تكتب تحت ضغوطهم، فكيف تتمكن هذه من انضاج قرارات مصيرية لا يريدها هؤلاء، لا سيما بعد ان نشروا وباء التطرف والارهاب وحصدوا ثماره وهناً عربياً غير مسبوق؟! نعم أيها الطغرائي، إنَّ رجل الدنيا وواحدها، في زمانك وفي كل زمان، هو من لا يعول في حل مشاكله على رجلٍ أو دولة، طالما أنه قادرٌ على أنْ يكون كذلك ولم يفعل!