غالب عباس العميدي
تُعدّ مدينةُ الحلة حاضرةَ بابل الحضارة، وعمرُها يقتربُ من الألف عام منذ تمصيرها على يد (صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسدي) عام 495 هـ، سكنها أقوامٌ جاءت من كلِّ مناطقِ العراق، ولذا فشعبُ هذه المدينة متنوعُ القومياتِ والأديانِ والمذاهب، هذا التنوّعُ الذي اتّصف بالتجانس الكبير، أدّى إلى تميّز ثقافةِ المدينة عن أقرانِها من المدن، فضلاً عن تميّزِها بالعلاقات الاجتماعيَّة الرصينة.
من العوائل التي سكنتْ مدينة الحلة هم (آل العزاوي)، الذي ينتمي لهم نادر مؤسسُ أكبر حيٍّ في الحلة وهو (حي نادر) أو ما يعرفُ شعبياً (كاع نادر).
هو نادر كامل كريدي بن سلامة بن علي عَشَوْ بن طهماز بن فارس بن عبد الله بن عبد مروح بن عرّار بن بايزيد، من عشيرة العزة ألبو (أجود) وهي العشيرة الأصل والأم، وأمّه هيتيَّة الأصل نزح أجدادُها من هيت قبل قرنين ونيّف من السنين للعمل في التجارة واستقرّوا في الحلة. وُلد المرحوم نادر كامل كريدي عام 1928 لأبٍ كان يعمل ملاّكاً للأراضي والمقاطعات الزراعيَّة، ورثها عن أجداده، ولأنَّ جدَّه الأكبر كان من الشخصيات التي تستعين بهم السلطة العثمانيَّة لفضِّ النزاعات بين العشائر، لما له من سمعةٍ طيّبةٍ وحضور، فقد أصبح من الشخصيات الذين تحترمُهم وتقدّرهم تلك السلطات، وبسبب الحروب التي خاضتها الدولة العثمانيَّة التي أدّت إلى عجزٍ مالي كبير، قامت ببيع قسمٍ من أملاكها للتعويض، فقام عددٌ من الشخصيات ومنهم الجدّ الأكبر لنادر، بشراء مقاطعاتٍ وأراضٍ كبيرة وكانت حينها بمبالغ زهيدة، فاشترى جدُّ نادر المقاطعة التي تُسمى بـ (التاجيَّة)، وبمرور الوقت أصبح لهذه الأراضي ورثةٌ كثيرون ومنهم كامل كريدي والد نادر.
أواسط خمسينيات القرن العشرين اتّسعت مدينة الحلة عمرانياً وهو أمرٌ طبيعيٌّ بسبب زيادة سكان المدينة، الأمرُ الذي اضطرّ المسؤولين آنذاك للبحث عن أراضٍ جديدة لتشييد مساكن لأبناء المدينة، لهذا السبب استُدْعيَ المرحوم نادر من قبل الجهات الرسميَّة آنذاك بوصفه ممثلاً عن الورثة الشرعيين لمقاطعة (التاجيَّة)، ولكونه الوحيد الذي يسكن مدينة الحلة، للتباحث معه حول تحويل قسمٍ من أراضي هذه المقاطعة إلى أحياءٍ سكنيَّة، ولمْ يتردّدْ بالموافقة، وهكذا ظهر للوجود هذا الحيُّ الذي أطْلَقَ عليه الأهالي تسمية (كاع نادر). بادئ الأمر عند إعلان بيع الأراضي، لم يَتقبلْ أهالي المدينة ذلك فعكَفوا عن الشراء؛ لأنَّ المنطقةَ بعيدةٌ عن مركز ، فقام المرحوم (نادر) ببناء أول بيتٍ فيها لأسرته، كما أنَّ الثمنَ الزهيدَ لقطعة الأرض شجّع بعضَهم للشراء والبناء، حينها اندفع أغلبُ أبناء المدينة والقرى المجاورة لاقتناء الأراضي وبناء بيوتهم، وعندما انتبه المرحوم نادر إلى أنَّ بعضهم بدأ ببناء البيوت على وفق ما اعتادوا عليهم في مناطقهم الشعبيَّة، حيث البيوت المتلاصقــة، قام بتخطيط الحيّ على وفق الأحيـاء الحديثــة، وهكذا كانت الشوارع الحديثة الرئيسة منها والفرعيَّة، وكذلك تبرّع بقطعة أرض لمديريَّة المعارف لبناء مدرسة، وتبرَّع بأرضٍ أخرى لبناء حسينيَّة أُطلِقَ عليها اسم (تاج الفيحاء)، وكذلك قيامه مع الورثة الآخرين بتبليط الشوارع الرئيسة الثلاثة، مستثمراً تأثيره وعلاقاته ليكون تبليطاً جيداً، كما قام بعمل مجاري للحي، ونفَّذ متطلبات إجازة البناء بتجهيز الشوارع بأعمدة الإنارة.
من المواقف التي لا بُدَّ من ذكرها والتي تدلُّ على نُبل المرحوم نادر، هي قيامه بتخصيص أراضٍ للفقراء الذين لا يملكون ثمنَها مجاناً، وبعض الناس لم يمتلكوا المبلغ كاملاً فقام بمنحهم الأرض على أنْ يتمَّ تسديد المتبقي مستقبلاً، ويذكرُ بعض سكانِها أنَّه أعفى قسماً منهم من التسديد لضعف حالتهم الماديَّة.
أحد الأيام وبعد أنْ خرج من داره بسيارته شاهد إمرأة تقف على الطريق، أوقف السيارة مستفسراً عن حاجتها، فعرف بأنّها تريد الذهاب إلى الحلة (الولاية) "كما كان وما زال بعض سكنة الحلة يطلقون على مركزها"، أقلّها معه في سيارته دون أنْ تعرفَ من هو، وما أنْ انطلق في طريقه حتى انهالت بالسب والشتم على (نادر)، لأنَّه كما كانت تقول كان سبباً في قدومهم إلى هذا الحي البعيد، كان يضحك في سرِّه وهو يستقبل شتائمها، وبعد أنْ وصلت للمكان المطلوب وقبل أنْ تترجّل أعطاها مبلغاً من المال لغرض العودة، شكرته، ترجّلت، ناداها، يا أختي أنا نادر، ذُهِلتْ المرأة وبقيت تنظر إلى السيارة المنطلقةِ في طريقها ولسان حالها يقول: ما هذا الرجل؟ ألعنه وأشتمه وهو يوصلني ويعطيني مبلغ العودة؟