الشعوب التي مرت بحقب تاريخية مظلمة وقاسية، لا تلبث ان تواجه بعدها اشكاليات جدية، لكن من نوع مختلف. ففضلاً عن معالجة التراكمات الثقيلة، ووضع النقاط على الحروف بخصوص الاسباب التي أدت الى ما أدت اليه، وكيفية منع تكرار ذلك مستقبلا، فان تقدم الزمان لا يلبث ان يأتي بأجيال جديدة الى مسرح الحياة، بتحديات جديدة، وذاكرة مختلفة ايضا.
هنا تظهر مفارقة الاتعاظ من الدروس من جهة، ومتطلبات النظر للمستقبل من جهة اخرى. وهذا مرتبط ايضا بالسرعة والكفاءة التي يتم فيها فتح صفحات جديدة، ومدى العقبات التي تواجه ذلك.
في المانيا النازية مثلا، لا تزال الرموز التي مثلت تلك الحقبة الرهيبة في تاريخها (ما يقارب العشرة ملايين قتيل من المانيا وحدها) ماثلة، لتبقى شاخصا ودرسا وعبرة. وبعد سقوط النازية ظهرت الاشكاليات المحتمة: كيفية التعامل مع بقايا النازية؟ اين الحدود بين من تتوجب محاسبته، ومن يتوجب دمجه بالمجتمع مرة أخرى؟ فضلا عن اعمار الخراب الهائل، والعودة للانطلاق مجددا.
بالطبع نشأت بعد ذلك اجيال جديدة، اصبحت ترى ما يتم سرده لها شيئاً من الماضي. ومع ان الرأي العام ظل بعد ذلك والى يومنا مناهضا للنازية، فلا بد ان المتعاطفين معها صوروا لابنائهم الصورة بشكل مختلف. ولا تزال هناك الى يومنا، بعد مرور اكثر من سبعين عاما، الجماعات المتطرفة اليمينية ذات الفكر النازي، والتي توجه عدوانيتها اليوم الى جماعات المهاجرين بدلا عن الاعداء التقليديين السابقين. علما ان حكم هتلر، رغم كارثيته التي ادت الى حرب عالمية قضت على ما يزيد على خمسين مليون انسان، لم يدم اكثر من 12 عاما تقريبا، ستة منها سبقت الحرب (1933 - 1939) وستة اخرى كانت الحرب (1939 - 1945).المشاكل ما بعد الاستبداد تتفاقم اذا كانت فترة الاستبداد طويلة الأمد، حيث يمكن ان يصطبغ جيل كامل او اجيال متعددة باخلاقيات الحقبة الاستبدادية، ليس من جانب الاقلية التي تساندها فقط، بل من عموم المجتمع، كما يشخص الكواكبي ذلك بحق في كتابه المشهور (طبائع الاستبداد).
واذا انخرطت المجتمعات الجديدة في صراعات جديدة، كما حدث في العراق وليبيا واليمن على سبيل المثال، فان الاشكاليات تمسي اكثر تركيبا وتعقيدا. وهو ما يتصل ايضا بمدى كفاءة القوى السياسية الجديدة التي تملأ فراغ السلطات القديمة، ومدى نزاهتها ومصداقيتها وحرصها على التقدم. في ظل مشهد عام كهذا يمكن النظر الى الاجيال الجديدة التي نشأت في بلادنا (والتي تمثل الشريحة السكانية الاكثر عددا)، بين استيعاب دروس الماضي، ومعالجة المشاكل المتراكمة من خدمات وعيشة وفقراء وارامل وايتام وذوي احتياجات خاصة، والنظر الى المستقبل دون نسيان الماضي، ودون ان يصبح متكأ لتبرير اخفاقات الحاضر أيضا.