جليل حيدر: الإفلات من الجهل لا يعني انتساباً للحداثة
حاوره: كاظم غيلان
جليل حيدر ومنذ إصداره الشعري الأول (قصائد الضد) وهو يشكل صوتاً مهماً ومتفرداً في الشعريَّة العراقيَّة، ولمناسبة وجوده ببغداد عائداً من منفاه السويدي أجريت هذا الحوار معه ونحن نتنقل بين (گهوة وكتاب) واتحاد الأدباء، وبمناسبة أخرى هي قربُ صدور أعماله الشعريَّة عن دار الشؤون الثقافيَّة العامة.
فضيلة الستينيات
* أنت من بقايا آخر عنقودٍ شعري ستيني به من صخب موجته وروحه الحيَّة وبيانه الشعري ما أشغل ثقافتنا العراقيَّة؛ ما الذي أضافه وما الذي بقي منه؟
- فتح جيل الستينيات أفقاً معرفياً وحداثياً في كتابة الشعر متجاوزاً من سبقوه ومستفيداً أيضاً مما أنجزه شعراء الحداثة الأولى: نازك وبلند والبياتي والسياب، الذين استفادوا هم أيضاً من الاتجاه الحداثي في الشعر بمصر ولبنان الياس أبو شبكة، جبران، جماعة ابولو، وتأثر بالحداثة الأوروبيَّة وتحديداً الانكليزيَّة.
للستينيين فضيلة أخرى في فتح أفق الحريَّة والسؤال التي أفضت إلى احتكاكٍ مع الحركات الثقافيَّة والسياسيَّة في أوروبا، جيلٌ ثارَ على التقاليد الأميركيَّة تحديداً وقاده إلى الن غينسيبرغ وفيرلنغيتي وبوروز عندما أحدثوا ثورة في الكتابة بفضاءٍ من الحريَّة والتمرد مع حركة الهيبز، في الخروج عن أطر من سبقهم وتحديداً في تحطيم النظرة الرأسماليَّة المغلقة في المجتمع، هناك أيضاً في الجانب السياسي المباشر للحركة الطلابيَّة في فرنسا والتي انضمَّ إليها فلاسفة مثل سارتر وميشيل فوكو، ومن كل هذا الخليط كان التبادل الجمالي والمعرفي والانفتاح في القراءة والترجمة، حركة التمرد الستينيَّة جعلت من التمرد على الإطار العمودي للتفكير ما يشبه ثورة في النص، مثلنا فيه على الأخص فاضل العزاوي في بيانه الشعري وفي قصائده التي استخدم فيها الكولاج والصور الفوتوغرافيَّة، فضلاً عن أصدقائي مؤيد الراوي وعبد الرحمن طهمازي وسركون بولص وصادق الصائغ وعبد القادر الجنابي وآخرين.
ثقافة المراجعة
* إجابتك هذه تدعوني لسؤالٍ مفاده أنَّ المتغيرات السياسيَّة آنذاك تدخلت في نهضتكم الشعريَّة؟
- صحيح، فقد نشأت أسئلة جديدة في الأفق السياسي ومراجعات للتجربة في ما يتعلق بالبعثيين والشيوعيين على السواء، ظاهرة القيادة المركزيَّة مثلاً والخروج من مذبحة شباط 1963، إذ بدأ المثقفون البعثيون يراجعون تجربتهم كما بدأ الشيوعيون بذات المراجعة، هذا التساؤل خلق أيضاً جواً معرفياً جديداً أو لنقل جدلاً أو نقاشاً أثمر حركة شعريَّة وأدبيَّة عامَّة، ترى هل هناك آصرة الآن بين كل هؤلاء وبين التغيرات السياسيَّة الجديدة التي طرأت بعد 2003 عراقياً والاحتلال الأميركي الذي لم ينتج سوى إغلاق كل منافذ الحريَّة والتفتح، قتل المساواة بين الرجل والمرأة وإحكام قبضة الدين، وجعل الانتماء الطقوسي هو أكثر المصادر لاغتصاب المجتمع.
ثقافة منفى
* ولكنْ هذا الاحتلال الذي تحدثت عنه ومشكلاته هو الذي فتح لنا أفق حريَّة اللقاء بثقافة المنفى العراقي..
- وفتح أيضاً لمثقفي المنفى اللقاء بعد غربة والتواصل مع كتابنا وشعرائنا، مع أني أرفض مقولة الداخل والخارج، إنَّ الجانب المهم فقط هو كسر الطوق بيننا كمثقفين، لكنه خلق التباساً كبيراً في مفهوم الحريَّة والديمقراطيَّة التي لا نجد تمثيلاً واقعياً لها في حياتنا الآن سوى الخراب والمال والسلطة.
أسد بابل
* كتب ادونيس بعد صدور، مجموعتك (أسد بابل) كلمة هلَّا حدثتنا عنها؟
- تبين لي أنَّ (أسد بابل) كلبٌ صامتٌ، ذلك الأسد الذي كان يمثل لنا نهضة وقوة لم يعد أسداً، وأستاءُ جداً عندما يكتبُ الكثير من المثقفين العراقيين مفتخرين بآثار الماضي بينما الحاضر يهددنا؛ لأنَّ الحريَّة الوحيدة التي يتبجحون بها هي انهيارٌ حقيقيٌّ، والحريَّة أيضاً الوحيدة في حاضرنا هي حريَّة التدين والبكاء، والانغلاق.
* هذا السواد والتشاؤم في إجابتك ما هو إلا مخلوقات المنفى، فهل توضح لي ما الذي فعله المثقف العراقي في منفاه لقضيَّة العراق؟
- لا يملك الكاتب العراقي في منفاه سوى حريَّة القول والاحتكام إلى التأمل؛ لأنَّه الوسيلة الوحيدة للنظر في ذاته وسؤال نفسه عمَّا حدث ويحدث، مثلاً كان احتكاكي بالمؤثرات الخارجيَّة والصوت العالي الضدي يأخذ حيزاً في القصيدة، أما في المنفى فضعف هذا المؤثر وبدأ بالانسحاب إلى الداخل في القصيدة، ونشأت أسئلة تخصُّ الذات والآخر: من نحن؟ شعب أم شعوب؟ هل نخضع لنسقٍ ولإطارٍ واحدٍ في التفكير؟ أم نحن مختلفون؟ أرى أنَّ أفقنا مغلقٌ وفق سيطرة اليقين.
انتساب موسوس
* في حوارٍ سابقٍ أشرت لأبوَّة قصيدة النثر بوصفها فرنسيَّة، واليوم يروج للهايكو الياباني، ألا ترى أنَّ هناك جفاءً بين الشاعر العراقي أو العربي وعمقه الشعري..
- في قصيدة النثر خليطٌ من المفاهيم والتصورات، بعضهم ينسبها إلى النفري في (المواقف والمخاطبات) أو عبد القادر الكيلاني، بادعاء أنَّ تراثنا كان فيه نصوصٌ من النثر، آخرون بمن فيهم سعدي يوسف ينسبها إلى والت وايتمان مع أنَّ قصيدته هي من الشعر الحر، هناك آخرون يتفاعلون مع قصيدة النثر كخاطرة، هذا الانتساب الموسوس يظهر عدم معرفة بطبقات الشعر حتى أنَّ بعضهم لم يقرأ أبي نواس والمعري وامرؤ القيس ولا يحسن قراءة قصيدة أو بيتٍ واحدٍ لكل حملة ذلك التراث العظيم. ثم تأتي علينا موجة (الهايكو) وهي نصوصٌ يابانيَّة صرفة ليست لها حمولات في توطين القصيدة عربياً.
لست ضد الحرية ولكنني ضد هذا العبث الجاهل... كيف تكتب قصيدة وأنت لم تقرأ تاريخك ولغتك وتحاول الإفلات من هذا الجهل المعرفي بالانتساب للحداثة، وهذا ليس له علاقة بحرية التعبير.
غياب نقدي
* ألا ترى أنَّ النقد بوصفه متناً أو سلاحاً إبداعياً قد تكاسل في تقويم هذه الفوضى الشعريَّة؟
- كان لنا نقادٌ كعبد الواحد لؤلؤة، نجيب المانع، علي جواد الطاهر، إحسان عباس وأمثالهم، واكبوا الحركات الشعريَّة وتابعوا تأثيراتها في اللغة والصورة والبناء الجمالي؛ بمعنى أنَّ للناقد مسؤوليَّة جماليَّة في قراءة النص والجيل والحركة، ما هو موقف النقاد؟ لا أدري. لقد تحول إلى نقدٍ صحفي يومي، وأعتقد بسبب كثرة ما ينشر ويقال، والتسرع في النشر، يعني عندما تقرأ نصاً وكتابة لـ»رولان بارث» تتذوق نكهة الناقد بمن يكتب عنه، بمعنى أنها قراءة ثانية للنص، ثم نرجع لما كتبه ابن سلام والجاحظ ومن كتب عن الشعر في تراثنا وفي مقدمتهم ادونيس حين طرق ديوان الشعر العربي وأعاد نتاجه قرائياً خذ على سبيل اختياره مثلاً لهذا البيت:
«شعر ابي حفص لعاب الليل»
أو:
«تشقى ومن تشقى له غافل
كأنك الراقص في الظلمة»
* شيوع القصيدة الجماهيرية بين الناس في راهننا كيف تفسره؟
- أحترمُ وأستمتعُ بمثل هؤلاء الشعراء: مظفر النواب، أحمد مطر، موفق محمد؛ لأنهم تعبيرٌ احتجاجيٌّ في هذا الوقت الذي نحتاج وجودهم وقصائدهم فيه، إنهم يكشفون ضحالة الحالة الاجتماعيَّة والسياسيَّة في بلدي وينبهون إلى المساوئ وخطورة التسلط ورفضها.
ظاهرة {التك تك}
* الآن أعدتني إلى انتفاضة تشرين وما صدحت به حناجر شبانها فهل تراهن على هكذا شعر فنياً ووطنياً؟
- الجميل في انتفاضة التحرير شعريتها رسماً وعلاقات لم يشهدها العراق بين الشباب وتكسير الأطر الخانقة ورفضها والتمرد عليها، ووجدت في ظاهرة «التك تك» وجهاً آخر لبلدي.
عودة إلى المنفى
* أعود معك للمنفى ثانية لأعرف ما الذي أخذه منك وما الذي وهبك وهل حدثتنا عن أبرز ما قدمته ثقافته في دفاعها عن الجحيم العراقي بتلك الحقبة؟
- أخذ نصف عمري، وأمدَّني بعلاقات وخيبات، من بيروت إلى دمشق ثم إلى قبرص والمغرب والعودة الخائبة إلى بلدي.
تجمعنا في منظمة (رابطة الكتاب والفنانين الديمقراطيين) ببيروت وأصدرنا مجلة (البديل).
ما يخصني كتبت بياناً بتجمعٍ ثقافي عربي ضم عراقيين، فلسطينيين، لبنانيين باسم (الندوة الثقافيَّة) وكل نشاطنا في لبنان كان نشاطاً احتجاجياً ضد التسلط في بلداننا وقد شهد البيان تضامناً كبيراً. تعرض بعضنا للاغتيال (عادل وصفي، خالد العراقي) وكان وقتها رئيساً لتحرير مجلة الثورة الفلسطينيَّة، وأقمنا أمسيات شعريَّة وحركات تضامن ثقافيَّة وقدمنا صورة إبداعيَّة للمعارضين العراقيين.
من قصائده:
(1)
المُعَذّب
اليساريُّ العَذبُ
خطَّ شِعاراً في الغُرفةِ
مُنشغلاً بالعاصفة
وخلفهُ نهرُ من الدمِ.
يبدأُ نشيدُ العُزلةِ
عندما تنفتحُ الستارةُ
ويتقافزُ الكومبارسُ.
اليساريُّ العَذبُ اليساريُّ المُعذّبُ
لمْ يستمعْ لإيقاعِ الموجِ
سَحَرَهُ الشاطيء.
مالمو. تشرين 22
(2)
في مديحِ الهوى
انفتحتِ الستارةُ واختَرَقنا الهوى
هوى كلماتٍ سعيدةٍ
حيثُ تهربُ القواعدُ
وتُنتهكُ الفضيحةُ
مثلَ إضاءةٍ في بيتٍ خالٍ
وإطلاقةٍ طائشةٍ للرغبة.
سرَقَ منّا الإعصارَ
وقَدّمَ لنا الغصّة.
يا لَهُ من حبيبٍ ينحدرُ إلى أخوةِ المساءِ
يُقيمُ في الخيانةِ، هوَ المقتولُ
في قصائد المقتولينَ، بلْ
هوَ قاتلٌ يفضحكَ
مباغتاً الخلوة وأروقة الداخلِ:
داخلِ القلبِ
داخلِ الألمِ
داخلِ مرارةٍ
داخلِ شُعراء يصرخونَ في الأوراق.
(3)
في مديح الخمر
لُغةٌ هو الخمرُ، لغةُ الحُبِّ والندامى، لُغةُ مسرحٍ ومُمثّلاتٍ، لُغةُ ما بعدَ اللغةِ، والنشوةُ قُبَلٌ في حدائقَ، ومنديلُ حريرٍ لدموعِ الحُلوةِ.
الخمرُ
آياتٌ مُحرّمةٌ
كامرأةٍ بمايوه أحمرَ على البحرِ
تغييرُ الأوتارِ لخَبَلِ أندريه ريو وألوانهِ.
عندها
تصرخُ صُفّاراتُ النقدِ، بينَ قوسينِ، هروباً من الطاّمةِ
أي الرغبةِ.
الخمرُ
صياّدٌ ينسى شَبَكتهُ في النهرِ، كُلّما
وجدَ حانةً على الطريقِ
الخمرُ
صديقٌ عادَ من الهّمِ والسجنِ إلى العائلة.
الخمرُ هو أنتَ
مُرّحباً بالنجومِ المُضيئةِ في القلب.
هوَ بينَ الإناثِ خمرةٌ، سُلافٌ، قهوةٌ، صهباءُ ، ومُدامٌ
سلسبيلُ جنّةٍ
وصبايا في الكرخِ يُشعلنَ دجلةَ بالشموعِ
كأّنَ رسالةً تصلُ من بعيدٍ
إلى مُحّبٍ
أو زفافَ عاشقةٍ
وربّما
لإنقاذِ غريق.
7 اكتوبر 2022
مالمو
(4)
قيامةُ تشرين
كي تُوقظَ الشُعلةَ
كي تُنهضَِ ال.. لا
وكي تعبرَ ذاكَ النهر، وتلكَ الصفنةَ
ينبغي أن تُعيدَ النبض إلى الحركة.
هذه حركةُ قلبٍ وحّبٍ
خلايا مُدرّبةٌ على ..لا
لاءِ السجنِ
لاءِ حساسيةِ الوجع.
لاء مرضى بمصير الأشجارِ وظِلالهار
في غابةِ روحكَ
لاء الفردِ يواجهُ ظُلُمات القاعِ
والحُلُم