تل الزعتر.. قيامة فائق حسن من رماده

ثقافة 2023/01/22
...

 محمد طهمازي


يقول خوزيه ساراماغو في رواية "العمى": إن الضمير الاخلاقي الذي يهاجمه الكثير من الحمقى وينكره آخرون كثر أيضاً.. هو موجود وطالما كان موجوداً ولم يكن من اختراع فلاسفة الدهر الرابع حيث لم تكن الروح أكثر من فرضية مشوشة، فمع مرور الزمن والارتقاء الاجتماعي أيضاً والتبادل الجيني انتهينا إلى تلوين ضميرنا بحمرة الدم وبملوحة الدمع وكأن ذلك لم يكن كافيا فحولنا أعيننا إلى مرايا داخلية والنتيجة أنّها غالبا تظهر من دون أن تعكس ما كنا نحاول إنكاره لفظياً!

في هذه اللوحة تكاد تسمع الأطفال الذين ما يزال يُتمهم ساخنًا بحرارة الدم والنساء اللاتي أثكلتهن المجزرة للتو، يضجّون بالصراخ والعويل.. وجوه عزف فيها فائق حسن بقوّة ومهارة على وتر التعبير فوق سطح الكنفاس الخشن الذي أعده بيديه من قماش كيس السكر البني وحقق نجاحًا تقنيًّا باهرًا عليه.. إنها روح الواقعية التعبيرية التي تسري في دمه وهو ابن هذه البلاد التي عجنت من طين المعاناة والمآسي والفجائع والانكسارات ثقيلة الوطأة!

هذا العمل، وأعمال أخرى معدودة للأسف، هو من يمثل الصورة الحقيقية لتجربة الفنان فائق حسن، التجربة التي أكد فيها فائق حسن انحيازه للجانب الحداثوي لكن ليس السطحي، بل المنبعث من عمق الأصول الفنية الأكاديمية والمخلص كل الإخلاص للموهبة الفذَّة التي تنطق بها لوحته هذه من دون شكّ أو ارتياب.

لنعلم جيدًا أن محاربة المبدع لا تكون فقط في تغييب جهده الإبداعي فقط وإنما أيضًا في حصر موهبته في حيز ضيق لا يعادل عُشر إمكاناته والبناء على ذلك حتى يُصار إلى تحجيمه حيًّا وميّتًا.

يقول الكاتب والفيلسوف الإنكليزي آلان دو بوتون "إن الآراء السائدة لا تنبع عادة من عملية تأمل صارم، بل عبر قرون من التخبّط الفكري"، إن الصورة النمطية التي عمل ويعمل الكثيرون على ترسيخها من دون وعي فني، وكأنك أمام حالة من السلوك الجمعي الأعمى، والتي تقدّم بديهيّة لاحقت فائق حسن في حياته وحتى بعد مماته.. صورة لبديهية تقول إن فائق حسن هو "الفنان المتخصّص برسم الخيول" الخيول ولا شيء غيرها.. هي صورة منافية للحقيقة لا يمكن أن تصدر على لسان فنان واعٍ أو ناقد حقيقي متخصّص، بل هي كلمات تلوكها ألسنة جهلة النقد وكتاب مقالات البيرغر، كما أسمّيهم، الذين ينعقون وراء كل ناعق، ومدعي الفن الذين ناصبوا ويناصبون العداء لهذا الفنان الكبير!

وهنا نتساءل: لماذا تمّ ربط فائق حسن برسم الخيول وحياة البداوة؟ سؤال يفتح الباب لسؤال آخر هو ما الذي دفع فائق حسن خريج البوزار الفرنسي في ثلاثينيات القرن العشرين والأول على دفعته وقتها، للانسياق نحو رسم هذا الموضوع؟ من دون إجحاف المستوى العالي في تقنياته في عدد من تلك اللوحات التي لم تكن بتلك الكثرة التي يتصورها المتلقي، بل تم تضخيمها.. الجواب يكمن في معرفة الفترة التي لجأ فيها لرسم حياة البداوة والتي كانت إبّان تولي سياسيي البدو الانقلابيين دفة السلطة في العراق ورواج الثقافة البدوية بشكل تدريجي حتى سيطرت على مفاصل الثقافة والفن بعد الفكر السياسي العراقي، حتى سيطرت على أخلاقيات الشارع العراقي ومفرداته.. وفائق حسن ليس بمعزل عن كل هذا لا اقتناعًا منه، ولكن ليساير الحياة ويكسب قوته كما يقولون!

من جانب آخر لا يختلف المحطمون لهذا الفنان الكبير في فنّه عن البنية المجتمعية العراقية التي تعبد الجلادين وحتى لصوصها أكثر من الخالق، عبر تمجيد فنّه لكن من زاوية قاتلة مثل دس السم في العسل.. في ذات الوقت هي بيئة طاردة بشراسة ومحاربة للكاريزمات الفنية والأدبية والفكرية والعلمية، وليست شخصيات العسكر والسياسة سوى نسخ وليدة عنها وإن كانت بجرعات مركّزة.. لهذا تجد مبدعي هذه البلاد إما يعيشون الفاقة والتجاهل والإذلال في بلادهم أو يسكنون المنافي على مساحة دول الشتات على العكس من حياة الوجه الآخر! 

تكمن خصوصية هذا العمل تقنيًّا في إظهار فائق حسن رشاقة فرشاته لونًا وحركة مبتعدًا عن نسخ الصور وقدرته العالية ليس على الاحتفاظ بالملامح التعبيرية لشخوص العمل، الذهول.. الخوف.. الألم.. بل وتكثيف الحالة التعبيرية بلمسات بليغة إن صح التعبير دون تكلّف وخلق فضاء مسرحي (سينوغرافيا) عالي التوتّر يمزج بشكل فريد بين حالتين متناقضتين، بين أن يضج الناس جزعًا من هول المأساة وبين أن يثوروا ويدعوك للخروج معهم في ثورتهم!

لطالما كان الكبير فائق حسن يسكن أذهاننا، وما يزال، مذ كنا طلابًا في أكاديمية الفنون كمثال ناصع للتجريب الجمالي واللوني والطرح المتغيّر وكان مدرّسًا يمنحنا زخمًا معرفيًّا ويتعلّم معنا في ذات الوقت ليزيد من تراكم خبرته العتيقة..

يقال بأن الخروج من الطفولة هو التكرار الأبدي لأسطورة الخروج من الجنة! وفائق حسن رفض حتى الرمق الأخير الخروج من طفولة الرسم.. جنّة الرسم!.