الدغارة.. أصداءٌ وذكريات
راسم الأعسم
ان بعضاً من ذكريات المدينة لما تزل قابعة في أعماق الذاكرة ودهاليزها تصارع الإمحاء والذبول بإصرارٍ عجيب، لتستعيد عبق ونشوة تلك الأيام الموشاة بالعبث الطفولي البريء، فأي طعم ألذ وأشهى من متعة الجري على بساط الرمال الفضيَّة الساخنة الدبقة التي تحتضن نهر الدغارة الرؤوم في صيف تموزي قائظ.
وهو ما انفكَّ يخترق بمنعطفاته جسد المدينة ويشقها الى نصفين، فينساب وسط أرضٍ رسوبيَّة هشة، طافحاً بشذا الغرين والرمال الناعمة.
وأي متعة أيضاً تحاكي متعة التجوالات والمشاكسات اللاهية لصبيَّة لا همَّ لهم سوى الانشغالات بصيد البلابل والطيور الملونة اللائذة في أحضان بساتين (آل حواس) وبستان (العجمي) و(آل مهاوش) وغيرها، منتشية بدفئها وسكونيتها المحببة، فتنهمر في نفوسنا وتشع في جنباتها سعادة غامرة آسرة ملء الدنيا.
واحة هاجعة هي الدغارة، غافية على وسادة أحلامها العِذاب، تحفُّ بها باسقات النخيل وارفة الظلال الراكزة حذاء ضفاف النهر الحنون وهي تشمخ بقاماتها السامقة حد تخوم السماء، ذلك النهر الذي منح المدينة اسمه الخالد، فغدت بفضله بقعة خضراء يانعة تحكي للأجيال قصَّة كفاح الإنسان الدغاري وهو يصارع طبيعة لا تمنح عطاءها من دون عناء.
كنا فتية لاهين نخفي ملابسنا وأشياءنا الصغيرة خلف جذوع النخيل أو بين اجمات الأعشاب الطريَّة المتطاولة الزاحفة صوب العراء، قبل أنْ نرمي بأجسادنا الناحلة في مياه النهر الغرينيَّة الدبقة، فنعوم كطيور الاوز منتشين فرحين وعيوننا ما انفكت ترنو الى تلك الحلقات المائيَّة المتشظية المتداخلة وهي تعكس أضواء المصابيح الملونة المعلقة فوق فضاء النهر، مسفوحة على أديم الماء المترجرج. أيامٌ جميلة مضت مفعمة بالبساطة والعفويَّة والبراءة، براءة الروح النقيَّة التي تتراقص جذلاً..
لم يكن النهر هذا على الدوام مبعث سعادتنا وفرحنا الطفولي، بل كثيراً ما كنا نغشى عنفوانه وبطشه، لحظة يغادر وداعته وهدوءه ليستحيل الى ماردٍ متجبر، حين تبتلع أمواجه الصاخبة، تلك الأجساد الناعمة الطريَّة لواحدٍ من رفاقنا عندما نهرع إليه لنطفئ لهيب القيظ المستعر في أجسادنا ونلهو على مرابض اللعب الصبياني على ضفافه الطينيَّة اللزجة فينزلق إلى حيث مياهه الراكضة صوب الأفق الشرقي البعيد، عندئذٍ تستحيل أفراحنا أشجاناً، وتخيم على المدينة سدف معتمة من المرارات الغاضبة، فتخرج النسوة وهن متشحات بالسواد يلطمن وجوههنَّ ويندبن حظ تلك الأم الثكلى العاثر التي فجعت بفقد ولدها، فراح النسوة يتوسلن بـ(الخضر) و(صاحب الزمان) أنْ يُخرجَ لها وليدها الغائب علها تلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة.
ومن الذكريات عن الطقوس الاجتماعيَّة التي تصاحب مراسم الزواج والختان والتي انقرضت اليوم من عالم المدينة، وغالباً ما تحدث هذه المراسيم عادة عند حلول ما يعرف لدى العامَّة (بفرحة الزهرة)، والمراد بها حلول شهر ربيع الأول الذي يأتي بعد انقضاء شهر صفر الذي يعدُّ امتداداً لشهر محرم الحرام، حيث أحداث واقعة الطف الأليمة وإقامة المجالس الحسينيَّة لإحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين "ع"، حيث تسود أجواءٌ من الحزن خلال هذين الشهرين فيمتنع الأهالي عن إقامة الأفراح فيهما.
ففي ما يسمى "ليلة الدخلة" يقوم أهل وأصدقاء العريس بعمل زفة له تنطلق من بيت العريس بعد العشاء إلى حيث شاطئ النهر مشياً على الأقدام وسط أهازيج وزغاريد النسوة، وهناك يتمُّ غسل رجلي العريس بماء النهر للتبرك به حيث يطلق العامَّة على النهر جاري فاطمة فقد جاء في الموروث الديني أنَّ نهر الفرات قُدم مهراً لفاطمة (ع) لزوجها من الإمام علي (ع)، ثم تعقب ذلك إقامة ما يطلق عليه (الكيف) حيث تنصب الأرائك أمام البيت وتجرى سهرات ليليَّة تستمر ثلاثة أيام يتخللها الغناء والرقص يحييها مطربون من المدينة نذكر منهم (عامر البنه) و(يوسف خطار) و(عبد السادة) وغيرهم ويحضرها جمعٌ غفيرٌ من أبناء المدينة.
أما مراسيم ختان الأطفال فتقام لهم زفة في داخل المدينة أيضاً إلى حيث النهر حيث يردد المحتفلون أغاني الفرح، حيث تغسل وجوههم بماء النهر بعد أنْ يرتدي الأطفال دشاديش بيضاء اللون ويضعون في أعناقهم القلادات والحلي الذهبيَّة.
وفي صباح اليوم التالي يحضر إلى البيت شخص يسمى (عنبر أبو الطبل)، ويقوم بالضرب على طبلٍ كبيرٍ معلقٍ في عنقه وآخر يعزف على آلة الطبلة ويقوم بعزف أغانٍ شعبيَّة راقصة فيزيد الحضور بهجة وسروراً، ويقوم الأهل برمي الحلويات والنقود ابتهاجاً بهذه المناسبة السعيدة.
ولعلَّ من فيض ذكريات الأمس، منظر أولئك النسوة الغجريات (الطشاشات) يملأنني دهشة وذهولاً، وهن يتجولن في طرقات المدينة وأزقتها المغسولة بالشمس، يخرجن من تحت عباءاتهن أنواعاً من الأحجار مختلفة الألوان والأحجام مخبأةً بأكياسٍ مدلاة بأعناقهنَّ، يفترشنها عى الأرض، ليكشفن لأمهاتنا المتعبات عن طوالعهنَّ وحظوظهنَّ وآمالهنَّ في المستقبل.
ولا زالت أصداء تلك الأنغام الشجيَّة تتردد في مخيلتي وهي تنبعث من ربابة ذلك الجوال الغجري العجوز (كبيس) وهو يقف قبالة أبواب البيوت الخشبيَّة المشققة المقفلة متوسلاً إلينا بنظراته الكليلة نحن الفتية المتحلقين حوله مأخوذين بنغمات ربابته الشجيَّة أنْ نخبره باسم صاحب الدار ليعزف له لحناً ممزوجاً بأشعاره ذات اللكنة البدويَّة مصاغة بقالب الحداء البدوي يستدر من خلاله عطف صاحب الدار علَّه يمنحه بعضاً من دراهم معدودات، بعد أنْ يغدق عليه الكثير من الخصال الرجوليَّة المحببة الى النفس ليس أقلها الشجاعة والكرم وإغاثة المحتاج، ورغم أنَّ الكثير من هذه الذكريات قد توارت من ذاكرة المدينة، لكنَّ نغمات ربابة ذلك الغجري الجوال بصوته المتهدج تأبى أنْ تغادر ذاكرتي.
وما أنْ يقترب المساء بعتمته الكثيفة، حتى تخيم في الفضاء الرطب ظلالٌ داكنة فتخيفنا وحشة الشواطئ المائيَّة وتمتلئ نفوسنا برائحة الأدغال والقصب النديَّة وأشجار الصفصاف الملاصقة لحافات النهر، فتصمت الطيور وتكف عن شدوها لتتعالى أصوات الجنادب الخضراء ونقيق الضفادع المخنوقة مع خفوت أشعة الشمس الغاربة وهي توشك أنْ تتوارى خلف بساتين النخيل هناك، والتي راحت تتشح بظلمتها المخيفة. فتضجّ في وهدة المساء الموارب رائحة الليل المشبعة برائحة أرغفة الخبز المنبعثة من التنانير الطينيَّة القابعة في زوايا البيوت الهاجعة.
يختزن مرفأ طفولتنا الكثير من ذكريات تلك الأيام الطافحة بالعنفوان والطهر، ولعلَّ منظر عربة السينما المتجولة التي اقتحمت عالم مدينتنا فجأة وعلى غير انتظار وراحت تتجول في شوارع المدينة معلنة على الملأ بمكبرات الصوت أنَّ أفلاماً سينمائيَّة سيجري عرضها مساء هذا اليوم، لا زال حاضراً ومتوهجاً في ذاكرتنا رغم مرور الأيام والسنين ورغم أنها كانت أفلاماً تسجيليَّة دعائيَّة، إلا أنَّها كانت ملمحاً ترفيهياً ومعرفياً جديداً أشعلت في نفوسنا مكامن الدهشة والفرح الطفولي.
كنا ساعتها فتية صغاراً طفقنا نجري خلفها حفاة ممسكين بدشاديشنا بأيدينا النحيفة.
وتمر السنون، وفي فجر تموزي صيف ١٩٥٨، أضيء فضاء المدينة فجأة باشتعالات الفرح المزدانة الملونة كأقواس قزح لتغمر شمس ذلك اليوم بيوتات المدينة الحالمة بالحريَّة والمستقبل الوضاء، فانقشعت تلكم السدف الرماديَّة المقيتة وولت هاربة وراء الأفق البعيد وذوت في أحضان الليل الأسود الكابي، فطفقت إشراقات وومضات الوعي المتوثب تتشكل بتمهلٍ يقظ لتشحذ حركة الإنسان الدغاري وتدفعه الى الأمام صوب ميادين تثري وتعمق إيقاع الحياة المتدفق وتزيده بهجة وجلالاً، فلاحت في الأفق بوادر نهضة معرفيَّة في شتى ميادين الفكر والإبداع غرس بذورها معلمون أفذاذ مروا من هنا ذات يوم، وها هو غرسهم يتوهج تحت الشمس وغدا اليوم أكثر خضرة وبهاءً.
تلك مثابات وعوالق رومانسيَّة ذائبة في النفس لزمن مضى.