الرحلة العجائبية

ثقافة 2023/02/08
...

محمد جبير


بتفسير تلك الوقائع والحكايات وفق متبنياتها الفكرية والعقائدية ودرجة الانحياز لا سيما في الوقائع المفصلية في التأريخ، التي لا تق، وهذا من مخفقات البناء الفني للرواية يرتكز الروائي في تعامله مع (الواقعة/ الحكاية) التاريخية وفق تصورات مسبقة قد تكون من مخرجات قرائية لكتب ناقشت أو روت وقامت بل الرؤيا الرمادية، قد ينطبق ما تقدم أو يتوافق مع نهج المؤرخ في تدوين تلك الوقائع، لكنها غير ملزمة بالنسبة للروائي الذي يقوم بقراءة تلك الوقائع وفق مفاهيم ورؤى بعيدة عن درجات العاطفة التي دونت الواقعة كما حدثت بتفاصيلها.

يرى الروائي الوقائع والأحداث بعين الرائي المتبصر وليس الرائي الراصد وهنا يكمن الفرق بين الإبداع والتدوين، إذ هناك الكثير من السرديّات التأريخية هي مدونات أو عادة سرد مدونات تاريخية من دون إضافة القراءة المعاصرة لتلك المدونات، وأن أرخنة النص السردي لا بد أن تتوخى حذر التماهي مع تلك السرديات التي تملك سحرها وتشويقها وقد تتفوق على مهارات السارد  ذاته.

يرى الكاتب فيصل عبد الحسن في روايته “الرحلة العجائبية/ سيرة الهفهاف بن مهند الراسبي/ 486 صفحة / من منشورات  دار الصحفية العربية ودار العرب في سوريا “أن” التاريخ لا يقول الحقيقة دائما “. الرواية – ص6”. هذه الجملة الموجزة تقبل القراءة من الوجهين “الحقيقة / واللاحقيقة”، لكن هذا الخيط الذي يفصل بين الأبيض والأسود من يتمكن من  تمييزه؟ هل يميزه المتلقّي أم السارد؟ يحسم الروائي هذا الجدل في قوله :”الروائي وحده من يجدها متلألئة بين سطوره الممحوة”. “الرواية – ص6”.

الواقعة التاريخية والحكاية السردية:

يوجز الكاتب الحكاية التاريخية “خطاب وتلخيص” في تظهير الرواية الذي نص على الآتي “رواية الرحلة العجائبية تحكي ما نعيشه حالياً من أحداث وفتن في وطننا العربي من خلال سيرة بطل يبحث عن العدل والكرامة له ولمجتمعه، مفارقاتها مستقاة من أحداث تاريخية حقيقية حكت الحب والشجاعة والغدر والنفاق الاجتماعي والتضحية من أجل المبادئ من بدايتها حتى نهايتها المأساوية”. قد يكون هذا مجمل خطاب النص الروائي الذي يتلخّص في الفقرة الثانية من التظهير “سيعيش القارئ أحداثها العجائبية وما دار في العراق والشام في زمن الأمويين من حوادث خلال تلك الحقبة الضاجَّة بالمؤامرات والملاهي والفتن والمكابدات والأسفار من خلال شخصية الهفهاف بن مهند الراسبي المعروف تأريخياً بالشهيد الأخير في معركة الطف التي حدثت على أرض كربلاء سنة 61هجرية”.

لا شك سوف يتوقع المتلقّي من خلال هذا التظهير الكثير من الوقائع الدامية واختلاف الروايات والانحياز والتخندقات مع هذا أو ذاك من طرفي الصراع، ويدرك نهاية هذا الصراع في الجملة الأخيرة من التظهير “الشهيد الأخير في معركة الطف” بمعنى آخر، أن سلطة المال ألحقت الهزيمة بسلطة الحق، وهذا ما تؤكده الانثيالات والتداعيات التي تراكمت في ذهن المتلقي والناتجة عن الكم القرائي لصفحات التاريخ التي روت تلك الوقائع أثناء وقوعها مثل معركة “صفين” أو” الطف وما بعدها.

لكن السؤال هنا، هل سيقدم السارد الحكاية بوقائعها التاريخية أم أنه سيروي حكايته للواقعة؟ وهل يظهر الممحو من هذه الحكاية أم يبقى في دائرة المحو؟ وما هو السؤال الروائي للنص ذاته؟ هل إعادة كتابة الحكاية أم تقديم رؤية للحكاية؟ وماهي درجات الانحياز في هذا النص؟ لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة مجتمعة من دون الذهاب إلى تفكيك النص ومتابعة تطور وحداته السردية التي ارتكز عليها الكاتب في التواصل مع سرد تحولات  هذه الرحلة.

ارتكز محور الحكاية السردية على رحلة الهفهاف الراسبي وهي ليست بالرحلة التي تسير سيرها الطبيعي ، وإنما استثمرت الوارد والشارد من الحكايات المحيطية للنص، فهي لم تعتمد على سارد واحد يقوم وفق تراتبية تصاعدية في سرد الأحداث وإنما هناك أكثر من سارد، وأكثر من حكاية، فتعدد الحكايات المحيطية للنص كان يشتغل على هدف محدد لذاته، قد يكون في نبش الممحو من سرديات المدونات التاريخية ويرتكز على الحكايات الشفاهية التي يتناقلها المسافرون في حلِّهم وترحالهم، هذه المسرودات الشفاهية التي ما أن تصل إلى الهفاف أو خادمه مسعود فإنها تتحول إلى مدوَّنة حكائية بوصفيهما ساردي الحكاية الأساسيين، وإذا كان الهفاف يلتقط من الحكايات ما يعزّز قناعاته المبدئية في الاصطفاف مع جانب الحق والعدالة والإنسانية وهو الأمر الذي تجسّد في سلوكه من رحلته إلى الأبُلَّة وشراء الجواري من التاجر ثم إطلاق سراحهن لأنه لمس فيهن ذلَّ العزِّ وهو ما لا يقبله لنفسه فإن مسعود كان بالعكس من ذلك يتدخَّل أو حاضراً في مسروداته الحكائية معبِّراً عن مواقفه وآرائه في بعض المقاطع من تلك المسرودات  “كانت السفارات ما زالت مستمرة بين الطرفين، وإلى دمشق، والخليفة الراشد علي في الكوفة. لكنها في حقيقة الأمر سفارات زائفة– كما أظن– الغرض منها تحشيد الجيوش، وطلب الأنصار من قبائل الجزيرة العربية، وكسب القلوب بالعطايا والمناصب من جهة والي دمشق، والوعظ والإرشاد من جهة خليفة المسلمين في الكوفة”. “ص10”. 

وقد ساعد هذا التباين في السرد على إيجاد مشتركات ووشائج لربط الحكايات المنفصلة عن تطوّرات الحدث المركزي “الرحلة” مع تلك الشوارد من الحكايات من المدن المختلفة مما يعطي فسحة للمتلقي ليمارس أفق التوقعات لمجريات سير الحكاية السردية وهي قد تتطابق أو تختلف معها، فقد كان قرار عودة الشقيقات الثلاث إلى العراق وقطع رحلتهن إلى بلادهن فارس حيث العودة إلى الأهل، وتغيير الهفاف لقافلته الذاهبة إلى الشام وقرار التوجه إلى حلب من الكوفة، هو أشبه بقرار أو انتظار عودة الشقيقات الثلاث ولقائهن بالأمير الهفهاف الذي أطلق سراحهن  ليعشن في ظل حمايته لا سيما أن الاخت الصغرى أحبَّت الهفهاف من أول نظرة.

لكن الحكاية العامة ليست حكاية حب لتنتهي بهذه النهاية السعيدة، ولم يكن سؤال النص الروائي سؤالاً في الانتصار للرومانسية وإنما هناك أهداف كامنة وراء هذه الرحلة بقدر الأهداف التي يعلن عنها النص السردي، والتي سوف تُفصح عنها الحكاية بعد التوقُّف في هذه المحطة الرومانسية التي قد لا تعني للهفهاف شيئاً يذكر لكنها مستقبلاً ستكون محطة جديدة في حياته وحياة خادمه مسعود.