الشباب في عالم متغير

ثقافة 2023/02/08
...

دعد ديب 


الشباب خزان الطاقة لدى الشعوب ونسغ نموها ونبض وجودها وجسر امتدادها، نظرًا للفاعلية الفائقة والاندفاع والشغف الذي تتمتع به هذه الفئة العمرية من حيث النشاط والحيوية المتدفقة والفتوة المتوفزة في مرحلة تعتبر من أهم المراحل في حياة الفرد، في عملية عبوره من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب وهي بمثابة إعلان عن اكتمال تكوينه الجسدي وتوضيح معالم شخصيته وملامح اهتماماته وميوله، وذلك التميز بالحساسية البالغة وردود الأفعال السريعة يقابلها اكتئاب الإحباط والنكوص في بعض الحالات، كما تتفتح لديه الغرائز الجنسية كمجهول يتعرف عليه ويتعامل معه بخشية ورغبة معًا،

 إذ إن حساسية هذه المرحلة في ذلك التناقض بين انتمائه الجديد إلى عالم الكبار وبين بقايا ما تركته الطفولة في نفسه من الليونة والخفة وكذلك التعارض بين ضغوط المحيط الذي قد يطالبه بما هو أكبر من وعيه في بعض الحالات.  

احتياجات الشباب ومشكلاتهم: 

 إن الاستثارة الداخلية والطاقة الاندفاعية التي تتشكل في هذه المرحلة تخلق احتياجات كبيرة منها احتياجات فيزلوجية كالحاجة للجنس والطعام ومنها حاجات اجتماعية للنشء مثل إقامة العلاقات الاجتماعية والإنسانية مع الآخرين والرغبة في أن يكون محبوبًا ومقبولًا من الآخرين مما يؤهله للقيام بالواجبات وتحمل المسؤولية، كما أن هناك حاجة كبرى لتصريف الطاقة الشبابية في نشاط مقبول ومقنع اجتماعيًا وهذا تؤمنه الرعاية الصحية والصحيحة للمواهب والقدرات ودفعها بالاتجاه الصحيح لاكتساب المعارف العلمية وتوسيع المدارك العقلية، تعقبها حاجة للاستقلالية عن عالم الكبار وتأكيد الذات كما لا يمكن إغفال الحاجة الكبرى للترفيه عن النفس والترويح عنها عبر نشاطات ثقافية من مسرح وسينما ومعسكرات رياضية كما تبرز أهمية الحاجة الكبرى لتزويدهم بالثقافة الجنسية الواضحة التي تعرفهم بجسدهم وتعمل على زيادة وعيهم وتبعدهم عن حالات الاستغلال من عديمي الضمير والوجدان، فالكثير من المشكلات والارتكابات تنشأ من الجهل وعدم تقدير العواقب النفسية والجسدية المترتبة عليها، وإجمالًا لا يمكن فصل مشاكل واحتياجات الشباب عن مشاكل المجتمع بشكل عام، إذ إنها منظومة متكاملة تؤثر وتتأثر في ما بينها وعندما يحل جزء منها تتداعى الحلول لبقية الأجزاء. 

هناك جملة من المعوقات التي تحول بين الشباب وتحقيقه لأهدافه ورغباته، وهي بحد ذاتها مشكلات كبيرة تنضوي تحت جملة من الأسباب الاجتماعية والنفسية والجسدية، والحقيقة كل منها لها علاقة بمستوى تطور البيئة المحيطة وتلازم العام والخاص، وقد تكون أهم مشكلة يعاني منها جيل الشباب في مقتبل العشرينيات هي الفكاك من هيمنة الأهل والسيطرة الأبوية على مشاريعه المستقبلية والرغبة بالاستقلالية بنفسه وقراراته، ولكل من الأهل والشباب أسبابه في التمسك بوجه النظر الداعمة لرأيه، إذ إن المشاكل الأسرية التي يعاني منها الشاب تنعكس على وضعه النفسي وتكبح إمكانيات تطوره كالانفصال بين الأب والأم والتعامل السيئ مع ظروفه ومشكلاته، وعدم تفهم المحيط الاجتماعي لرغباته  وطموحاته وأسلوبه في رسم حياته والتزمت تجاه بعض القضايا الطبيعية، فالأهل ولشدة رغبتهم بنجاح ابنهم كبديل لفشل طموحات سابقة لديهم يتم الضغط على الجيل لتحقيق ما فشلوا به وفق أوامر قاسية منفرة لا ترتبط بقدوة مكافئة من قبلهم، كل ذلك  له مفعول عكسي نتيجة لتجاهل الظروف والإمكانيات الخاصة بكل جيل والرغبات المتعلقة بمفاهيم متغيرة للحياة والعمل والعلاقات الشخصية فلن يكون الشاب نسخة عن أهله ولا رغبة له بذلك، بالوقت الذي تتقلص فيه فرص العمل التي ترجع إلى وضع كل بلد وظروفه وهذا يحتاج إلى آلية جديدة لمفاهيم المجتمع كافة لإعادة صياغة عقليات تتأقلم مع التطورات العامة للواقع الحالي والعالم المتغير، فلدى الشباب مثلًا رغبة كبيرة في ممارسة النشاطات الرياضية كمفرغ للطاقة الحيوية الكامنة في الجسد والروح وهذه الطاقة الكبيرة يقابلها انسداد آفاق تطويرها وتنميتها وعدم توفر مجالات تؤسس لعمل ومستقبل لها إلا ما ندر، فالحصول على لياقة بدنية كافية تتعلق بالغذاء الجيد والمتوازن، وهذا يؤدي إلى دراسة مشاكل أخرى متعلقة بالوعي الصحي والغذائي بالمجتمع ككل وبالدخل القومي وآلية توزعه وما إلى ذلك من مشكلات، وإن كان التعويل على جهود مجتمعية على مستوى الوطن وفق خطط تنموية طويلة الأجل معنية بتنشئة جيل كامل لا يعني عدم الاهتمام بالجهود الفردية والمبادرات الخاصة للمجتمع الأهلي بل من الواجب دعمها وتقويتها بكل المستلزمات الضرورية، كذلك هناك قضية  تطوير المناهج الدراسية الحالية حتى تتلاءم مع كم المعلومات الهائل الآتي عبر وسائل التواصل المفتوحة مع العالم والقدرة على تمييز الغث والسمين منها، ومن ذلك التيار المتدفق عبر القاعدة المعلوماتية الهائلة، فطرائق التدريس التقليدية تقتضي إعادة النظر بكل أساليبها وطرقها ابتداء بتحديث قاعدة المعلومات العامة بما يتناسب مع التطور العلمي في العالم وليس انتهاءً بإعداد الكفاءات التعليمية القادرة والمتمكنة وهذا بدوره يقتضي تحسين ظروف معيشتها ودخلها وحل مشاكلها الحياتية والمعيشية كي يكون الإقبال على العمل  بكامل الطاقة والفاعلية.  

الشباب وتقنيات العصر:

هل الانفتاح على المعارف والمعلومات في العالم يشتت النشء ويضيع البوصلة أمامه وهل الانغلاق على الذات هو الحل في زمن الأجهزة الذكية التي تصل الجيل بكل أرجاء الكون.

في الحقيقة أن الشباب هم الفئة الأكثر تأثرًا بالغزو الثقافي نتيجة الثورة الرقمية والانفجار المعلوماتي الهائل وقدرة الاتصالات في الوصول إلى أقاصي الكون وإلى سائر الأمكنة، وعلى اعتبار أن الشباب هم الشريحة الأوسع التي تتوجه إليها التقنيات الحديثة بسبب توقهم لكل جديد وحبًا بالتميز عن أجيال آبائهم وأجدادهم، ومن مخاطر هذا الاتساع المتصاعد في سيطرة التكنولوجيا الرقمية على العقول، هو التهديد بانقطاع تواصل هذا الجيل مع الجيل السابق وانفصال أواصر اللحمة الإنسانية بين الأجيال الناجمة عن التفاعل الحي والمباشر لانعدام حاجتهم إلى خبرات سابقيهم، فالعم غوغل كفيل بالإجابة عن جميع التساؤلات الخاصة والعامة، والفضاء الافتراضي يرفدهم بالمئات من العلاقات الافتراضية من عشاق وعشيقات لملء فراغهم العاطفي،  حيث الحصيلة افتقاد الخصوصية التي تميز فردًا عن آخر لأن الهيمنة الرقمية تنتج بتأثيراتها أفرادا لهم نمط متشابه نتيجة كم المعلومات الموجه للجيل وما يتبعه من تصميم وقولبة لمزاجهم وهواياتهم ورغباتهم من حيث اللباس، المزاج الموسيقي – المشروبات – نوعية الطعام، هذه الطباع والميول التي كانت ترتبط بمنطقة جغرافية معينة، ما يعطيها هويتها وطابعها المميز، ولكن في عالم اليوم يبدو أننا في سبيل إنتاج كائن كوني غير منتمٍ، فهذا التنميط على قدر ما ينتج إتقانًا للكثير من الإمكانيات العقلية ولكنه يدمر ملكة الإبداع لدى كل فرد، وفي مجال اللغة فإن امبريالية اللغة الإنكليزية على أهميتها باعتبارها تبوأت مكانتها كلغة عالمية، ولكنها تهدد النمو والتطوير والارتباط باللغات المحلية الأخرى التي يتقلص التعامل معها يومًا إثر يوم، هذا إذا لم نتطرق إلى “اللايكات” والايقونات والسمايلات التعبيرية عن حالات الفرح والحزن والغضب والسعادة كوسائل تعبير تعويضية. إن إعادة الاعتبار لمنظومة القيم والأخلاق الخاصة بكل مجتمع كرد فعل على التهميش الذي يتعرض له الجميع تتعلق كذلك بالحقوق والواجبات، وهي كذلك بوصلة الوصول إلى قيم المواطنة الصحيحة للجميع؛ للشاب والكهل؛ الصغير والكبير؛ المرأة والرجل؛  وإهمال هذه المنظومة يؤدي إلى فشل المشاريع التنموية في أي مجتمع، فالشعور بالانتماء والمسؤولية والأهداف والمصالح المشتركة تترافق مع قبول ما يترتب على الفرد من واجبات بالتسامح واحترام القانون وتقديم الطاقة القصوى في خدمة المجتمع وتحمل مسؤوليات ملقاة على عاتقه عبر ترابط المصلحة الخاصة والعامة، إذ إنه بعد موجة وباء كورونا واجه العالم بأسره مشكلة واحدة وحدته تحت الخطر الداهم ووضعت الجميع أمام المسؤولية بذات الوقت، مسؤولية الوعي الصحي ومسؤوليات تطوير تقنيات البحوث العلمية لدرء الكوارث عن الكون، كلها مجتمعة، وهي مسؤولية الجميع بلا منازع.  

نعم الجيل الحالي مهدد باضمحلال اللغة والهوية والتاريخ وهو تحدي اليوم والمستقبل، إذ من غير المعقول الرجوع للوراء والاستغناء عن المنجزات الرقمية والعلمية المتصاعدة باستمرار، فما العمل إذن أمام هذا التحدي والتهديد لكل خصوصية ولظروف كل مجتمع، فهل نستطيع نحن في هذا الشرق الترويج لنزعة إنسانية عامة تكون فيها الثقافة والأخلاق بخدمة الجميع ولخير الجميع، ما يوسع فكرة قبول الآخر والتسامح مع المختلف بكل أحواله لمجابهة التحديات، وهل يكون العمل بإدارة رشيدة تتقن السيطرة على هذه البرمجيات وتجييرها لخدمة أهداف ومصالح المنطقة ومراعاة خصوصيتها والإبقاء على ما تبقى من إرثها وتراثها جنبًا إلى جنب، وبذات الوقت الاستفادة من تراث وخبرات الشعوب، فهل نفعل؟!.