ماذا كتبَ الأدباءُ في رسائلهم للعراق؟

ثقافة 2023/02/11
...

 استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 

 أرض مأسورة بكلام الماء، فكأنها كتابٌ سماويٌّ للغيم والينابيع والعيون، وكأن الفراتين منذ جريا يكتبان على هذه الأرض خضرة ورجالا وملوكاً وفقراء وطواغيت وشعراء. أرض صالحة للحب، ولكن الحروب تولد دائماً، فتسمرُ العاشقات على الشرفات، وتبذر الأمهات على طرق الانتظار، بينما العشاق يموتون على الحدود. بلاد مشغولة بالأنبياء والمتصوفة، والحالمين بالدنيا والآخرة، مشغولة باللهو، وغارقة بفتنة السلطة، مشغولة بالفرح الذي طالما يصير حزناً، بالحزن الذي يصير حياة جديدة، إنه العراق الذي يملك لأغزر ذاكرة في المعمورة، أبو الأرض وأمها، فهرس أنبيائها ومفكريها ولغوييها ومحاربيها أيضاً، سادن شعرها، ومنبع لغاتها، وكتبها السماويَّة. 

إنْ كتبتَ رسالةً إلى العراق ماذا ستقول له، هل ستتحدث عن بساتينه المزدحمة على ضفاف أنهاره في الأرض والأحلام والشعر، أم أنك ستتغزل بنسائه المشابهات لأشجاره المثمرة؟ ربما ستشير إلى غزلانه المتراكضات في بواديه، وذئابه المتصيّدات لمن يغفل عن حياته؟ هل ستسأله عن أسلافك الذين أكلت الحروبُ حياتهم، أم عن حياة مواطنيك التي أُضيعَ أكثرها بين أحلام الساسة وأقدام الطواغيت، أم عن نهريه اللذين أخذا بالجفاف شيئاً فشيئا؟ هل تتساءل عن طفولته وشبابه وشيخوخته؟، هل ستذكّره بطفولتك وشبابك وعمرك الذي يتسرّب بين أرضه وسمائه؟ ماذا ستكتب له، عن أساطيره الكثيرة، وأديانه المتعددة، وأعراقه المتشابكة تشابك جذور النخيل؟ بأي الكلمات ستعاتبه لأنّه غالباً ما كان يسلّط جبابرة أرضه على أهلك، ويطعمهم لمطاحن الفتن والمعارك الضارية، أيحزنك أن تذكّره بخريطته المتحرّكة، بحدوده التي تتآكل عبر الأزمان باتجاه قلبه، أو بعلمائه وأدبائه وفنانيه الذين لم يستطع الحفاظ عليهم، فسكتَ عن غيابهم، حتى تفرق أكثرهم في أقاصي الأرض؟ ماذا ستقول، وعمَّ ستسأله أيضا؟ عن كل هذا بحثنا عن أجوبة مع نخبة متميزة من مثقفينا عبر هذا الاستطلاع.


صورة عن عراق تغير كثيراً

كانت البداية، مع رسالة القاص عبد الأمير المجر، التي ابتدأها بسرد جميل، لحياة القرية التي عاش فيها، إحدى قرى مدينة المجر الكبير، في محافظة ميسان، عبر وصف شفيف للبساتين والبيوت على ضفاف الأنهر، التي تصب معاني جريانها في الأهوار، كالكمات في القصص المذهلة.

وكان المجر يحاول عبر رسالته، أن يقدم لنا صورة مصغرة عن عراق يلمس تغييراً كبيراً في حياته، فكانت رسالته نهراً من التذكر المزدحم بجمال الطفولة والشباب وغنى المعاني.

رسالة المجر كان هذا نصها: حين ترتفع الشمس قليلاً، ويتشظى ضوؤها بين سعف غابة النخيل شرق قريتنا، يبدأ أهل القرية بالتوجه إلى شمالها، حيث يستقر (الماطور) وهو الزورق النهري، الذي ينقل المتسوقين من القرية إلى مدينة المجر الكبير.. الشط الممتلئ بالماء الغرين، والبساتين التي على ضفتي النهر والأرض الخضراء، التي تتعرى أمام زحف الضوء، وبيوت القرويين الموزعة بين الجانبين، وصولاً إلى المدينة التي ينقسم شطها الكبير إلى فرعين (العدل والوادية)، ومنهما تتفرّع الأنهر الصغيرة، لتشكل القرى التي ترافق رحلة النهر، وصولاً إلى الأهوار، ذلك العالم الساحر والبيئة الغنية بالاسماك والطيور.. تلك الصورة مستقرة في أعماقي، وهي التي ظلت عصية على النسيان، بل وتتضح أكثر بداخلي كلما تقادم الزمن، ونأت بي السنون عنها.. وتكملها صورة المجر، المدينة الصغيرة، النظيفة بمرافقها المدنيّة التي تبهرنا، نحن القرويين، وتجعلنا نتوق للذهاب إليها بين الحين والآخر... هل تحدثت عن المجر الكبير وأنموذج من قراه وحسب؟! لا بالتأكيد فأنا أحاول أن أستعيد صورة مصغرة عن عراق تغيّر كثيراً، وصرنا نتوق إلى الذهاب إليه معاندين رحلة الزمن وعادياته!... نعم، فالحديث عن إرسال رسالة للعراق، صعب جداً، لا سيما لمن يمتلكون حسا مرهفاً، وذاكرة تختزن الجمال وتحتفي به، فالعراق الذي كان، كان مزدحما بالجمال، حيث الغناء والشعر والفن، وقصص العشق التي تميز حياة العراقيين، وتلهب قرائح الشعراء، وتشجي أصوات المطربين.. أو قل هكذا هو العراق، أو هكذا كان إلى وقت قريب.. نعم، سأرسل رسالة للعراق الذي أتمناه، وأتمنى أن أستعيد ذاتي وذوات الملايين مثلي ممن تقطعت بهم السنون، وهم يودون العودة إلى حيث الحياة التي كانت... لكن! لن أبكي على غابات نخيل العراق، التي اختفى أغلبها، ولكني اتطلع إلى أن أرى عودتها، بعد أن تطورت آليات الزراعة وتقنياتها الحديثة، ولن أبكي على شطوط العراق وأنهاره، التي كانت تناطح الاجراف فالعالم كله صار يبكي على ماكان عليه مثلنا وربما أكثر، لكن العالم صار يكيّف نفسه ووارداته الطبيعيّة، على وفق معطيات العصر، ويعيد إنتاج السعادة التي شحت بها الطبيعة، من خلال إعادة إنتاج الطبيعة بآليات مبتكرة.. لن ابكي على تاريخ العراق، وآثاره التي نهبت لأنها ستعود يوماً، ولكني اطمح أن أرى أثرا كبيراً يحققه شعب العراق اليوم، من خلال ادارة سليمة لموارده البشرية والمادية ليقدم نفسه للعالم ويقول ها أنذا، لا أن يبقى ماثلا وسط اطلال الماضي او عالقا فيه.. وحينها سأفرح بالعراق القديم كفرحي بالجديد.. 

وهذه رسالة أخرى أود أن أرسلها للعراق وأبث من خلالها لوعتي، وأنا أرى الحياة المعطلة في أكثر مفاصل البلاد، بينما شبابها يسفحون طاقاتهم في اليباب.. فالعراق الزاخر بالطاقات المختلفة قادر على النهوض واستعادة روحه التي أراد لها البعض أن تغادره، لكنه وكما كان على مر الأزمنة، يضعف ولا يموت.. 

نهراك دمعٌ وأبناؤك منافٍ 

الشاعر رعد زامل، كانت رسالته شعريّة، تضمن نصّها تساؤلاً عن الأنهار التي تجري بالدمع، كان زامل يتحدث عبر هذا النص مع أبيه العراق، بجمرة الشاعر المستفسر عن حزن ذلك الأب الجليل، وتلك البساتين التي التهمتها الحروب، والأبناء الذين استبدت بهم المنافي، وهذا نص رسالته الشعرية:


لماذا يجري نهراك بالدمع يا أبتِ؟

لماذا أنت شاسع

 الحزن وغريب؟

ما بال بساتينك

في كلِّ حرب

وهي مجزرة

تذبح فيها رؤوس النخيل

ألهذا دمعك أخضر

وهديلك في الملاجئ

يشبه النحيب

إلامَ يظل 

جرحك فراتا

ونزفك يخضّب الكلمات 

ساعة النشيد؟

إلامَ وأبناؤك في المنافي 

يستبد الليل

بأحلامهم والزمهرير

ترى من أيِّ جبٍّ ومنفى 

نأتيك بقميصهم؟

فتقوم بصيراً

أتعلّم يا أبتِ

أنَّ عبد الأمير جرص 

في كندا

عارياً على الطريق 

يواجه موته الغريب 

لقد أودت بحياته دراجة طائشة

قبور كثيرة 

على الأرض تهتف شواهدها

باسمك في آخر الليل

غرباء كثيرون مثلي

يذرفون الشعر 

في محرابك

تترجح دموعهم بين الضوء والظل

يضيعون

ودموعهم على الكفين إليك الدليل

يضيعون

كأنّهم في الأرض دون وجهك

أبناء السبيل.


حتى تبايعك الأزمنة 

الشاعر حازم رشك التميمي، تحدث في رسالته عن البلاد المرتبطة بالسماء والمطر ومراياها التي تخطفته، عن علاقة أضلعه بما نُهِشَ من حياة وطنه، ولكنه يقف في رسالته مؤمناً بعجز الكلمات عن أسر البلاد التي تبايعها الأزمنة وتطأطئ الأماكن لها جبالها وسهولها، وهذا نص رسالته: 

إليكَ يا من وشّت حاجبيه الغيوم، بِمَ أناديك، وقد تخطفتني مراياك؟

وعلى أيّ الدروب أترسّم خطاك، وقد نهشت أضلعي كما نهشتك العوادي، هل كنت تدري؟! 

يقينا أنك تدري، ولكن لا بأس، فإنّي عاذر لك، ولهذا تستبق لهفتي الكتابةُ إليك. 

باهتٌ هذا الذي يأسرك بالكلمات، وشاحبٌ ذاك الذي يصطفي ألوانا ليرسم محياك في ذاكرة معطوبة، وأنت على امتداد الوجود نور الابتداء، وفيض العطاء، ولا ختام حتى تبايعك الأزمنةُ، وتطأطئ الاماكن لشموخك سهولها وجبالها… تحار المسمّياتُ في عوالم معناك، وأن تستمسك بمسماك، فينفرط في تخوم معانيك وذاكرتي، ففي ماضيك السحيق صروح مجد لا تعد، وسوامق مآثر لا تحد؛ فكيف يكون احتواؤك في مرهف قلب ندي الوداد، شجي اللوعة لفرط جحود مزمن وانصراف كدر، كم قد أقلقت هواجس العاشقين، حتى عجزت عن لملمة محاسنك: من أصيل علمٍ افتضضتَ حرفه منذ الأزل، وللآن رغم المطعون من خاصرتينا، والمستباح من دمنا، يامن استعصى على نمرود الفرقة أن يمزقه، مازلتَ تغزلُ نسيج المحبّةِ بدموع الثكالى، ولثغات الرضع الباهتين. 

أسائلك عن دفء طفولتي في (مراجيح) سعفات أحضانك، ولسعة البرد في ثنايا أزقة أعياد بيوت الطين، ورائحة خبز التنور تغوي شبق الحدق إلى إصبع الحناء، وهو يشير إليك بوصلةً من عناق، إذ تنداح قبل أمهاتنا وآبائنا على طريِّ خدود الطين، ونحن نستاف الوجل، خشية طرف حاسد، لندمغه (بخمسه أم خميسه)، هل تضحك الآن؟

وتهتزّ جذلان على غصن صبوتنا، وقد رجرتك إلى مخابئ ذكرى فارهة. يا ميعة الصبا إذ نبتت صوامع الوداد في محراب معشوقةٍ أنت عرَّابٌ لحائط علّقت على أخاديده صور المتعبين بمسامير الالتياع، وأنت أمانٌ لرعشة خوفها، هل تذكّرت سبحاتي وهي تتمتم اسمك بافتتان وله المريدين، وهم يحملون خشبتهم المرقومة لحظة صلب، وليس لجرمٍ سواك. ولكن لا بأس، ما دام هذا كله فيك، شكرا لأنّك جعلتني قاب سجدتين من ارتماسة نضوب مائك. 


أغنية في سلالة الحرير 

الشاعر الدكتور أحمد الخيال، ابتدأ رسالته بالإشارة إلى شجن ذاكرة العراقيين وفردوسية أحلامهم، وفكرة الخلود، التي نشأت مع طين الوطن وكبرت على ضفافه كالشجر، كما تحدث عن الحب الرافديني الحزين، الذي يولد منه العراقي، عن أمّهاتٍ شاحبة تقف على الشواطئ كالنخيل، ولم يذهب الشاعر في رسالته بعيداً عن الشعر، فها هو يحاول أن يشد جدائل شطوط البلاد، على فكرة قصيدته، وهذا نص الرسالة: 

يا ذاكرتنا المتّشحة بالشجن، يا فردوس أحلامنا المفقودة بين ضفتي نهريه، الزمان لحظةٌ تتفرّس اللانهاية على مداد طينك الرافدينيّ، والمكان فسحةٌ ممدودة على ولَهِ قلوبنا المنكسرة بالحبّ الذي لا يعرف الفرح، ولدنا من حزنك كأنّنا فراشات تستنشق لهيب شمسك وتحوم حول أساطيرك، نلتهم الخوف ولا نخاف إلا عليك، دموعنا ما زالت بيانات ناقصة عن وجودٍ غائم، عن أمّهات شاحبة تقف على شواطئك تشاطر نخيلك ولا تنحني إلا للحنين، حنين أمّهاتك الذي يشبه الظل بين بستانين في جنوبك الشاحب.

أُريد بكلّ ما منحني ترابك من سُمرة أن أشدّ جدائل شطوطك على فكرة القصيدة، أنا أعلم تمامًا أنك القصيدة التي لم يكتبها شاعرٌ حتى اللحظة، قصيدة تصعد من جذور الأرض البعيدة، خارجةً كبرعم صغير في عقولنا لتنمو وتنمو حتى تصبح نحن، وحين يأتي المساء يرسمنا الحنين على جدار أفقك، فتخفق الألوان ونسيل مع حمرة الشمس لننام على حصير معناك الدافئ.

 العراق أبي الذي لا يشيخ، وهل يشيخ أبٌ في ذاكرة أطفاله؟!، لي قلبٌ صغير مثل زهرة مغامرة تقاوم فصولك المتمرّدة، أُسبِّح بأيّامك يوم كنت أغنيةً في سلالة الحرير، والآن بعد كل هذه النهارات التي غرقت في فراتك ودجلتك اعتقدوا أنهم قادرون على إغراقك في بركهم الآسنة، لن يكون الوهمُ يوماً حقيقةً مهما غرّدتِ السبلُ لهم، ومهما خدعوا التأويل.

أنا أشبهك، ولا عيبَ في أن يشبه الطينُ نفسه، هل تنفّستم يوما الطين وهو يُداف بأقدامٍ عارية ليقومَ ظلّاً مثل عرشِ حنين؟!، هل قرأتم يوماً وصايا أنبيائه على حصيرٍ من خوص عمّتنا النخلة؟!، لا شيء يدرك تلك اللغة التي نبتت على شفاه أوليائك السُّمر، ولا تلك الحروف النازفة على جدران حضاراتك التي طعنتْ خاصرة التاريخ، كيف لي أن أنسى ذلك الصباح وهو يغسلني بكَ؟!. 

 لا عليكَ أيّها اليقين المتّهمُ بالشك، سيموت الطغاة مثلما تُكسَر جرّةٌ في يد فتاة كسولة، وستعود أيامك وعلماؤك ونهاراتك وأنهارك وأشجارك وطينك وحنينك، سيعود أبدُكَ طاردًا كلَّ نهاية، يومها سنلوّح لنا معانقين ظلّك الممدود.