بذكرى رحيل طه باقر.. مترجم المسماريَّات ومستنطق الحجر

ثقافة 2023/02/12
...

 وليد خالد الزيدي


لم يشهد تاريخ العراق المعاصر باحثاً في الآثار كالعلامة طه باقر الذي ولد في مدينة الحلة عام 1912، وتوفي يوم 28/ شباط/ 1984، واذا كان العالم يذكر أن أول عالم آثاري في التاريخ الحديث هو الألماني هاينريش شليمان (1822ـ 1890) الذي اختصَّ بدراسة الحضارات القديمة فإنَّ باقر هو أبرز علماء الآثار العراقيين والعرب.

كان مؤلف ومسماري ولغوي ومؤرخ وأبرز علماء الآثار في العراق والوطن العربي ترجم اللغة الأكادية إلى العربية لملحمة جلجامش، وفك رموز الألواح الرياضيّة البابليّة، وحفريات المواقع البابليّة والسومريّة القديمة، كما وأتقن اللغات العراقية التاريخيّة الأربع (العربيّة والآراميّة والأكديّة والسومريّة)، فضلاً عن الإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة. بحوثه ودراساته سبقتها اهتمامات الفرنسيين والانكليز خلال القرن التاسع عشر الميلادي في مجال الآثار العراقيّة الذين كانت لهم جهود حثيثة في تنبيه العراقيين للاهتمام بتاريخهم القديم، حيث كان طه باقر على دراية كبيرة بتلك الجهود، لكن ما يحسب له أنّه أظهر ثلاث مراحل حملت قراءات فارقة نبَّه عليها باحثي آثار وتاريخ العراق في سِنِي اهتماماته بتاريخ حضارتنا المجيد.

الأولى: إنّه اكتشف كثيرا من السلبيات في رحلات المستشرقين لبحث آثار العراق، لا سيما أعمال القرصنة والتهريب التي قام بها بعض العاملين الأجانب في هذا المجال.الثانية: إنّه تفرّد في استقلالية الباحث الوطني العراقي عن نظرة الغرب إلى تاريخ بلدنا بعد اكتشافه أنَّ نظرة الأجانب وقراءاتهم لكنوز آثار العراق لا تلائم إرادة العراقيين وهدفهم في التواصل مع حضاراتهم الأولى، وحينها قال باقر عبارته المشهورة (نحن العراقيين علينا اكتشاف تاريخنا بجهدنا ودماغنا والمنطق الذي نحمله).الثالثة: اكتشافاته العالميّة المتفرّدة التي دحض من خلالها انتساب نظرية قياسات أضلاع المثلث قائم الزاوية إلى عالم الرياضيات فيثاغورس، وأثبت بالدليل العلمي في أنّها نظرية عراقية قديمة تمتد لآلاف السنين خلال بحوث تلتها تنقيبات أكاديمية علميّة في آثار مملكة اشنونا شرق بغداد، فضلاً عن اكتشافه لقانون تلك المملكة الذي سبق قوانين الملك حمورابي عبر مسلّته المشهورة بنحو 200 عام.وبالعودة الى تنقيباته في بغداد بين (1945ـ 1963) بالتحديد مركز وثائق مملكة اشنونا وبموقع تل حرمل ويسمى (شادوبوم) قرب موقع تل محمد المسمّى (بنايا)، كلا التلّين الأثريين يقعان في بغداد الجديدة يعود لفترة (1800) ق.م حيث عثر على رقم طينية منها لوحان في حفريات تل حرمل سجلت فيهما مواد قانونية، تحتوي على أحكام مختلفة في السرقات والاعتداء والديون والأحوال الشخصية والأجور والأسعار والبيع والشراء، فضلاً عن رقيم دون مخطط لمثلث قائم الزاوية، أشرت فيه قياسات أضلاعه الثلاثة، ومما ذكره طه باقر في بحث قانون أشنونا (أن قانون مملكة أشنونا في التل المذكور أقدم مدونة قانونية في العراق القديم، حيث كان قانون حمورابي إلى زمن قريب أقدم شريعة في تاريخ البشر، حيث بدل هذا الرأي فيكون بذلك قانون اشنونا أقدم شريعة كشفها البحث حتى الآن).

رحل طه باقر ولم ترحل بحوثه ودراساته من كليات الآثار وأقسام التاريخ في العراق والعالم العربي ومراكز دراسات الحضارات القديمة في العالم، والمكتبات كمصادر معتمدة وموثوقة، ومكتشفاته من الرقم الطينيّة لحضارة وادي الرافدين تملأ متاحف العالم لتحكي حضارة العراق ورموزها.