مسألة الهويَّة

ثقافة 2023/02/12
...

 ستيفن كامبل هاريس

 ترجمة: حيّان الغربيّ

غالباً ما تكون الحضارة الغربية مثاراً للسخرية من حيث الهوس بالذات، إذ يلتقط الغربيون الكثير جداً من الصور الذاتية (السيلفي) ويطلب أحدهم من الآخر «أن يكون صادقاً مع نفسه»، كما يقرؤون أعداداً هائلة من كتب «مساعدة الذات». ولكنهم، مع ذلك، نادراً ما يفردون ولو جزءاً يسيراً من وقتهم للتأمل في ماهية الذات.، ثمة مشكلات تكتنف تحرّي طبيعة «الذات»، فالمنظور الأمثل يتطلب الابتعاد لمسافة مناسبة.



إذ إن مراقبة الأمر عن بعد تمنح المرء مستوى أعلى من الرؤية والفهم للأمر المعني. بيد أنه ليس بوسعنا الابتعاد عن ذواتنا، فلا يلبث المرء أن يطرح على نفسه السؤال: من تراني أكون؟ حتى يجد نفسه محققاً ومشتبهاً به في الوقت عينه. ومن ثم، لا عجب في أننا نجد صعوبةً كبيرةً في التفكير بهذه المسألة. فيما تقرأ هذا المقال، ترى الكلمات وتتأمل في الأفكار ذات الصلة، ويبدو أن إدراكك لهذا يتطلّب وجود موضوع لتلك التجربة. فعلى حدّ التعبير الشهير للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت: «أنا أفكر، إذاً أنا أكون». وإن ذاتنا، أو الـ: «أنا»، التي يتحدّث عنها ديكارت، مستترة في الخلف وظاهرة من خلال تجربتنا في الوقت عينه.

تغفل مقولة ديكارت بشأن الذات، على نحو يثير الفضول، الكثير من طرقنا المعتادة في بناء المعتقدات. إذ لا يسعنا مراقبة الذات بالاعتماد على حواسنا الخارجيّة (البصر واللمس والسمع وغيرها)، كما أنّنا لا نكتشفها استناداً إلى شهادات الآخرين. بدلاً من ذلك، اعتقد ديكارت أنه بمقدورنا أن نميط عنها اللثام بأنفسنا من خلال النظر في قرارة أنفسنا، وهي سيرورة ندعوها بـ: «الاستبطان» أو «تأمل الذات». ولكن إذا حوّلنا تركيزنا نحو الداخل، فهل سنتمكّن من العثور على ما قد نجرّبه بخلاف سمات التجربة بحدّ ذاتها؟ هل سنتمكّن من ملاحظة «الذات» وهي تخوض التجربة؟. 

لم يوافق الفيلسوف الاسكتلندي التنويري، ديفيد هيوم، على ذلك، لا بل خلص إلى أن التأمل الذاتي قاصرٌ عن تحديد أي شيءٍ يمكن الإقرار به بوصفه “الذات” الداخلية.ولكن المرء، حين يلج إلى ما يدعوه بـ “ذاته”، دائماً ما يصادف بعض الأحاسيس المحددة بشأن الدفء أو البرد، والضوء أو الظل، والمحبة أو الكراهية، والألم أو الغبطة، إذ يعجز المرء عن تحديد ذاته من دون تلك الأحاسيس، لا بل إنّه لن يلاحظ شيئاً آخر سواها. 

يرى هيوم أننا عاجزون عن ملاحظة ذواتنا من دون الإحساس، بيد أن بعضاً من أحاسيسنا قد يعطينا فكرةً عن ماهية الذات.فمن جهة، حين أمرّ بتجربة محددة، أنا أشعر بانفصال معين بين ذاتي والعالم، فثمة أشياءٌ تشكّل جزءاً مني، مثل يديّ، كما أن أشياءً أخرى تنضوي ضمن فئة “ما ليس أنا/ كل شيء آخر”، كجهاز الكمبيوتر الذي أستخدمه للكتابة الآن على سبيل المثال. كما تشمل “الذات” وتستبعد وتصنّف العالم إلى ما هو أنا وما ليس أنا. وحين أنظر إلى داخلي فإنّني أشعر بمزيج من الإبداع والتحكم، ويوجز الفيلسوف غالين ستراوسون المسألة على أنها تصوّرٌ حول “حرية الإرادة التامة والمسؤولة في الاختيار والتصرّف”. إذ يبدو أن تصرّفاتي وأفكاري صادرةٌ عني أنا، ولذلك لا بدَّ من أنها قابعةٌ في شيءٍ ما، وهو ما نسميه بـ: “الذات”، الأمر الذي يُفسّر ميل معظم الناس إلى المطابقة ما بين أنفسهم وعقولهم أكثر مما يفعلون مع أجسادهم، وذلك لأنّنا نؤمن بأن العقل هو المكان الذي تنبع منه الأفعال والمشاعر والأفكار.علاوةً على ذلك، أتصوّر ذاتي بوصفها شيئاً مستقرّاً لا يطرأ عليه أي تبديل، فأنا وإن كنت أرى أنني أتطوّر مع مرور الزمن إلا أنني أصرّ على أنني أبقى على حالي من حيث الجوهر. لعلّ هذا ناجمٌ عن ذاكرتي طالما أن هذا يعرّفني استناداً إلى نسخٍ عني من الماضي، أو لربما أجد هذا المعنى عن ذاتي ثابتاً من خلال تعريف متطوّرٍ مع جسدي.

قد يعترض البعض على أساس أن هذا التمرين لا يجدي نفعاً طالما أن هدفه يقتصر على وصف خصال الذات بدلاً من تحديد الذات بحدّ ذاتها. مع ذلك، فإننا حين نتطرّق إلى شيءٍ عادي مثل الإناء، فإننا نصف ماهيته من خلال وصف خصائصه (على سبيل المثال: إنّه إناءٌ دائري ومجوّف وإلى ما هنالك) ووصف ما يقوم به (كأن نقول إنّه يحفظ الأشياء ويمكن استعماله لتناول الطعام وهلمّ جرّاً). لذلك، يفترض أنّه بمقدورنا القيام بالأمر ذاته مع الذات، لكن المشكلات الأعمق ستطلّ برأسها إذا ما نظرنا فيما إذا كانت الذات التي تتمتع بالخصائص المحددة من قبلنا قادرةً على تحقيق وجودها قبل كل

شيء.

هل وجودك دائم؟ إن لم يكن الأمر كذلك، إذن، لقد بدأ وجودك في لحظةٍ معينة. ولكن متى بدأ الأمر بالضبط؟ وكيف حدث؟.

تثير هذه الأسئلة حيرةً عميقة وتستوجب مناقشتها تخصيص مقالٍ كامل. لذلك، سننحّي جانباً هذه الأسئلة المتعلّقة بكيفية حدوث الأمر وتوقيت حدوثه لنكتفي بالتركيز على الإمكانية العامة لتحقق الذات. 

على الرغم من أن الوجود الدائم للذات يعدّ فكرةً غريبةً بحق، فإن لحظة نشوء الذات تقع ومعها ألغازها ومفارقاتها الخاصة.

فلنبدأ بفكرة أن الذات تشكّل جزءاً ثابتاً من المرء، فمن وجهة نظرٍ بيولوجية محضة، يبدأ الإنسان لدى اتحاد الحيوان المنوي بالبويضة عند الحمل. وفي هذه المرحلة، لا يكون الوعي قد تشكّل. ومع ذلك، من خلال النمو واستهلاك مواد عضوية متنوعة من الأم، تنبثق الذات من تلك البويضة الملقّحة في لحظةٍ معينةٍ على نحوٍ غامض، مما يضعنا في مواجهة مشكلة. فقد قلنا إن الذات ثابتة، ومع ذلك ألا يتطلّب خلق الذات نوعاً من التغيّر من حالةٍ إلى أخرى؟

تبرز مشكلةٌ أخرى أعمق، ربما، لدى النظر إلى الذات بوصفها مستقلّةً عن العالم من خلال إقامة الحدود بين ذواتنا وكل شيءٍ آخر. فإذا خلقت الذات ضمن الكون، إذن سنجد أنفسنا إزاء المفارقة التالية: كيف يمكن للكون أن يقسّم من قبل شيءٍ يشكّل جزءاً منه؟

كتب الفيلسوف الإنكليزي، آلن واتس، يوماً: “نحن لا “نأتي إلى” هذا العالم وإنما ننبثق منه كما تنمو الأوراق من الشجرة. مثلما للمحيط “أمواج”، لهذا العالم “أناس”. وكلّ فردٍ هو تعبيرٌ عن مملكة الطبيعة برمّتها، وهو فعلٌ فريدٌ للعالم بمجمله”. يحمل تصوّر واتس للنشوء رسالةً مفادها أننا لسنا غرباء عن هذا العالم مع أن الكثيرين يشعرون على هذا النحو غالباً.

قد يشكّل شعور الانفصال وهماً ينشأ في مرحلةٍ لاحقة من تطوّرناً، إذ يبدو أنّ الأطفال الرضع يفتقرون لهذا الشعور الأساسي بالفصل ما بينهم والعالم، لا بل إنّهم يعتبرون العالم امتداداً لهم وفي البداية، يجدون مشقةً في استيعاب الاختلاف الذي تنطوي عليه وجهات نظر الآخرين. فهل يمكن أن تكون تجربة الوحدة الأساسية للرضيع أقرب إلى الحقيقة من شعورنا

بالانفصال؟

في نهاية المطاف، يقودنا الرأي بأننا مصدرٌ للخلق والسيطرة إلى أحجيةٍ لدى النظر إلى تطوّرنا ككائناتٍ بيولوجية. يقرّ معظمنا بأننا نستهلّ حياتنا كأجنّةٍ في تبعيةٍ تامة، فكل شيء نفعله في تلك المرحلة يتوقّف كلياً على القوانين والعمليات الطبيعية. ومع ذلك، نحن نطوّر في مرحلةٍ ما إحساساً حتمياً بالاستقلالية في تجربتنا الواعية، فنشعر بالحرية وبأننا مسؤولون عن أفعالنا وأفكارنا. فهل نكون قد نجحنا في صراعنا مع الطبيعة لاسترداد السيطرة منها؟ إذا كنا قد نجحنا بالفعل، فكيف نستطيع الوصول إلى الاستقلال بعد أن نبدأ حياتنا ونحن في أقصى مستويات الاتكالية؟

لعلّنا نفكّر في هذه المرحلة بأن النظر إلى الذات بوصفها كائناً بيولوجياً وشيئاً مستقلاً عن العالم وثابتاً وقابضاً على زمام السيطرة في نفس الآونة يقودنا إلى جميع أنواع المشكلات الشائكة. ولدينا بضعة خيارات: فيمكننا التمسّك بأن الذات موجودة في العالم وأننا سنحلّ هذه المشكلات في النهاية، أو بوسعنا أيضاً أن نحتج بأن الذات لا تتمتع حقاً بالخصائص التي نصفها، أو لعلّنا نؤكّد على أنها تتمتع بهذه الخصال حقاً ولكنها ليست بيولوجيةً تماماً.

غالباً ما يدعي أولئك الذين يسوقون الحجة بأن الذات ليست بيولوجيةً فقط بأننا نملك روحاً سامية، وهذا هو جوهرنا الثابت الحر غير القابل للتجزئة وهو قد سبقنا إلى الوجود كما أنه باقٍ حتى ما بعد موتنا. وبالنسبة للكثيرين من أتباع الأديان، يضفي الإيمان بوجود الروح المعنى على شعورنا بالاستقلالية وإحساسنا بالخلق والسيطرة وطبيعتنا الراسخة بصورةٍ واضحة.

أولاً، نحن نشعر بالاستقلال لأننا لسنا من هذا العالم حقاً، فبالنسبة للكاتب المنافح عن المسيحية ومؤلف “سجلات نارنيا”، سي. اس. لويس، إنه لمن الخطأ القول بأن لدينا أرواحاً بل حريّ بنا القول “بأننا أرواحٌ ولدينا أجساد”. ثانياً، نحن نشكّل مصدراً للخلق والسيطرة إذ وهبنا بارينا إرادةً حرة لاتخاذ قراراتنا، فلا تحدّ قوانين الطبيعة من قدراتنا إذ إننا لسنا كائناتٍ طبيعيةً. وفي النهاية، يتم تلافي مشكلة خروج كائنٍ ثابتٍ إلى الوجود من خلال النظر إلى الروح بوصفها خالدةً، فأرواحنا سبقت أجسادنا إلى الوجود وستبقى بعد أن تهلك أيضاً. وهكذا، يغدو بمقدورنا تجنّب التطرّق إلى مشكلة الكيفية التي يمكن من خلالها لذواتنا أن تنبثق من المادة وحدها.

ولكن الإيمان بالروح يفرز مشكلاته الخاصة أيضاً، فكيف يمكن لهذه الروح أن تبرز إلى الوجود؟ أو هل تم خلقها يوماً؟ كيف تتحد الروح مع الجسد؟ هل الروح مستقلةٌ عن العقل أو هي العقل نفسه؟ لعلّنا، إذ نفكّر في هذه الأسئلة، نميل إلى القول بأن “الروح” هي كلمةٌ لا تؤيد أفكارنا وإنما النقص فيها. فهل نسب الذاتية إلى الروح مجرّد خلع اسمٍ على جهلنا؟ أم أنه يساعدنا حقاً على تفسير

هويتنا؟