هملت برؤية أرمينيَّة قوامها المسرحة

ثقافة 2023/02/18
...

 أ.د. حسين علي هارف 


من العروض المتميزة التي في مهرجان فجر الدولي للمسرح بدورته الحادية والأربعين التي أقيمت في طهران في يناير المنصرم، كان عرض هملت الذي قدمته فرقة أرمينيا الوطنية للمسرح برؤية إخراجية جديدة قدمتها المخرجة آراي مجاكيام مزجت فيها بين الكلاسيكيّة والملحميّة من خلال استحداث لشخصية (السارد) وهو يحمل الميكرفون ليكون حلقة الوصل بين المُتلقي والأحداث، وسيكون هو نفسه عريف حفل الموت الجماعي في المشهد الأخير، إذ هو أيضا حكم منازلة المبارزة بين هملت ولايرتس شقيق اوفيليا الساعي للانتقام لمقتل ابيه على يد هملت. 

ورغم التزام المخرجة بالنص الشكسبيري بشكل كامل (باستثناء حذف شخصية هوراشيو) ورغم اعتمادها على طرازية عناصر العرض على مستوى الزي المسرحي، فإنَّ المخرجة قد قامت بتأكيد الطابع المسرحي (المسرحة) بوضع لمسات (عصريّة) تمثلت في استخدام الميكرفون من قبل أوسرك والآلة الكاتبة من قبل بولونيوس، و"الموبايل" الذي استخدمه هملت في التقاط سيلفي مع شبح والده الملك الراحل، وقد كان يستخدمه في ممارسة ألعاب الكترونية انشغل بها أثناء سرد الشبح لقصة مقتله بعد التآمر الثنائي عليه وعلى مُلكه بين العم والملكة الأم.

وباستثناء هذه اللمسات القصدية ذات الطابع المعاصر فإنّ المخرجة لم تقم بإضافة شيء على المتن الحكائي أو الحدث الدرامي مثلما لم تقم بحذف أي مفصل من مفاصل المسرحية. وربما تكون المخرجة قد أرادت بذلك سحب الحدث الشكسبيري إلى عصرنا الضاج بالتقلّبات والخيانات السياسيّة والعبث بالأوطان ومصائرها من قبل طغاة الحكم والسياسة. 

فقد طرح العرض عبر محصلة أحداثه التراجيديّة المرتبطة بالصراع السياسي حول الحكم والسلطة سؤالا مفاده كيف نخسر الوطن؟ من خلال فرضية أثبتها العرض (إذا لم تكن تملك إدارة جيدة للوطن فستخسر الحكم لا محالة! وعلى مستوى المعالجة الإخراجيّة - السينوغرافية اعتمدت المخرجة أسلوب مسرح داخل مسرح، فثمة مسرح صغير يتوسط عمق المسرح تم توظيفه كمدخل رئيس وكمنطقة تمثيل مشاهد الشبح وفرقة التمثيل، وثمة منصتان على جانبي المسرح أستخدمتا في مشاهد غرفة نوم الملكة وغرفة هملت، أما وسط المسرح فكان ميدانا لمونولوگات هملت ولقاءاته مع (بولونيوس واوڤيلياو ولايرتس وصديقيه) لكنه كان المسرح لمشهد النهاية المأساوية للأبطال جميعا التي تخللت واعقبت مشهد المبارزة بين هملت ولايرتس الذي خطط له ودفع به الملك العم كلوديوس للإيقاع بخصمه ومنافسه على السلطة هملت، فيموت لايرتس طعنا ويموت الملك بطعنة من هملت الذي يموت بدوره متأثرا بطعنة سيف لايرتس المسموم بتآمر من الملك. السلطة تأكل أصحابها والقاتل سيلقى مصيره التراجيدي المحتوم بالقتل في متوالية الدم التي تفرضها دموية كرسي الحكم مُغتَصباً كان أو متوارثا.

إنّها لعبة السلطة التي يبرع لاعبوها في تجسيدها وتقديم مؤامراتها المتخمة بالخيانات، كما فعلت الفرق التمثيلية التي استدعاها هملت لكشف مؤامرة العم والملكة الأم ومواجهتهما بجريمتهما المزدوجة (الاجتماعية - السياسيّة). إنّه مسرح السلطة المتداخل مع مسرح الحياة، فكلنا ممثلون ولاعبون، ولكل منا دوره (ما الحياة؟ إن هي إلا ظلّ عابر! إن هي إلا الساعة التي يقضيها الممثل على ملعبه متخبطاً تعباً). 

وتأكيدا لهذا المنظور الشكسبيري عمدت المخرجة إلى جعل (عربة التمثيل) بؤرة درامية - سينوغرافية، بدخولاتها المتكررة واحتضانها للعديد من دخولات الشخصيات ومونولوگاتها ولا سيما شبح والد هملت. لقد حققت العربة بصوتها المزمجر وثقل حركتها كمفردة منظرية حضوراً دراميا فنيا لافتا وحملت دلالات سيميائية عديدة ربطت بين فكرة مسرح الحياة وحياة المسرح. 

أجاد الممثلون لعب أدوارهم وفقا لفرضية المخرجة التي كرست الأداء التمثيلي الكلاسيكي وجعلت منه مرتكزا فنيا للحفاظ على الروح الشكسبيرية، غير أن اللمعان الفني كان من نصيب الممثل ايفيت زوهربيان الذي جسّد شخصية هملت بإتقان لا سيما في المونولوگات الهملتية المعروفة ومنها مشهد الكينونة (أكون أو لا أكون)، كما تميز مختار افيتسيان في دور بولونيوس، وماريكا في دور اوفيليا، وقد كان للممثل فاهي زيرويان حضور طاغٍ وهو يُجسّد بصرامة شخصية الملك العم. ربما تكون لويزا نيرسيسيان ممثلة شخصية الملكة غروتود هي الاستثناء الوحيد في منظومة التمثيل فكانت الحلقة الأضعف رغم ما كانت تمتلكه من جمال الشكل. ومن المشاهد الجميلة للعرض والذي حقق تأثيرا بالغا لدى الجمهور الذي حبس أنفاسه فيه هو مشهد المبارزة، فلقد قام الممثلان، زورا مارتيروسيان (لايرتس) وممثل (هملت) مشهداً حركياً ديناميكياً صعبا في منازلة بسلاح الشيش، وقد أدياه بدقة، وايقاع متسارع، ومحسوب، ومشوق.

بممثلين بارعين يمتلكون تقنيات أدائية عالية المستوى، وبرؤية درامية قوامها (المسرحة) وبمعالجة إخراجيّة ذات طابع سينوغرافي يجمع بين الطرازية والمعاصرة، حققت المخرجة آرا يمنجكيان عرضاً شكسبيريا (معاصراً) طرحت من خلاله خلاصة نظرية أكدت على أن التراجيديا هي ليست في ما يحدث على المسرح، بل في ما يجول في خواطرنا، نحن المتلقين.