الابتكارات الجماليَّة وفضاء العرض المسرحي.. {نعم غودو} أنموذجاً

ثقافة 2023/02/19
...

  د. علاء كريم

عديدة هي التطورات التي شملت أغلب جزئيات الحياة، والتي تمثلت بالعلوم التي تصنع وتنتج أفكاراً ورؤى متعددة، ومنها ما تجسد داخل الفضاء المسرحي، وبغض النظر عن طبيعته المعمارية إن كان دائريا أو علبة أو مسرح شارع في الفضاء المفتوح، من ثم هو فضاء يتضمن طبيعة العرض المسرحي وفقاً لطبيعته الجمالية والفكرية والحسية، وايضاً الدخول إلى تجارب التجريب والتجديد والبحث عن صيغة مسرحية مغايرة، تؤدي إلى إيجاد خطاب مسرحي يؤثر في وعي المتلقي.

هذا ما تجسد في العرض المسرحي (نعم غودو) والذي قدم من قبل مسرح المستحيل، على قاعة المعهد الثقافي الفرنسي في 11/ 2/ 2023، سيناريو وإخراج انس عبد الصمد. تمثيل د. محمد عمر وانس عبد الصمد وصادق الزيدي. تدور الاحداث المسرحية (في انتظار غودو) للكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت، حول شخصيات مهمشة، معدمة، ومنعزلة تنتظر شخصاً يدعى (غودو) ليغير حياتهم نحو الأفضل، مسرحية كانت رمزاً للمسرح العبثي، تكتنفها نزعه سوداويّة لا متناهية، والانتظار في مسرحية بيكت تحاكي العبث الحقيقي عبر (الانتظار) الذي لا وجود له أصلا أو لا معنى.

لكن في مسرحية (نعم غودو) لأنس عبد الصمد تجسد التكامل الشكلي بوساطة الفعل الموضوعي المتضمن أجزاءً ليومياتنا، الملامسة لعصور التجربة الإنسانيّة وتحولاتها التي تبنى على أساس الفكر والسلوك الإنساني، وأيضاً على مجموعة المتناقضات داخل فضاء كوني يقبل التعددية في كل شيء، وذلك بسبب التطور التقني والفضاء الرقمي وأجهزة الضوء والصوت، فضلاً عمّا يدخل بمكونات الفضاء السينوغرافي في العرض، مثل: حركة الطائرات وأصواتها، والتي تعبر عن التأرجح ما بين الاستقرار والسيطرة وبين الحركة الطوليّة للسكون، وأيضاً الاستجابة للمطبات وتأثيرها على التموج الحياتي، وأيضا صوت الساعة الذي يرمز إلى التردد الآلي، أو الموجات الزمنيّة القادرة على التحرّك في الفراغ، والدالة على مصادر الصوت في الطبيعة، والذي تسببه الذبذبات كوسيلة للاتصال الزمني. قدم هذا العرض المسرحي في فضاءات مختلفة، لكن الفكر الإبداعي لدى المخرج، حدد له الحيّز الاستثنائي في فضاء هذا العرض المسرحي، إذ استطاع أن يجد علاقة ما بين الممثل والمتلقي، كونه وسيطاً تخيلياً قد يضيف لجدليّة العلاقة التي تربط بين الفضاء المسرحي وبين الجانب الادائي للتجربة الإنسانية.

تنوع الأداء المسرحي لكل ممثل بالتشكلات التي اعتمدت الجسد كأداة بوح تتوقف عليه الصورة المسرحية، كـ (حركة) الممثل الميكانيكية والمتعاقبة للشخصيات التي ترتدي السواد والذي يدل على الغموض والتمرد والجاذبية والأناقة والعمق والتحدي، وفي الوقت ذاته يرمز إلى الاكتئاب والموت والشر، وعادةً يتصف اللون الأسود بالإرادة. وحركة الممثل الميكانيكية التي عكست قضايا الجسد المعاصرة بوساطة ميكانيزماته الأدائية والحركية والتعبيرية، لمجموعة الصور ذات البعد الخلاق لعوالم التفكير والخيال والتأمل، وهذا قد يلامس مفهوم البيو ميكانيك الذي يبحث في حركة أي كائن حي من جميع النواحي، منها، التشريحية والفسيولوجية والنفسية، وهذا يؤكد على القوة في حالة السكون.

فضاء (نعم غودو) طرح صور لها خصوصية عند المتلقي، الذي تشارك وتفاعل مع العرض لما تضمنه من قلق وضرب وصراخ، أيضا تمزيق الكتب وغسلها بالماء، التلبس بشخص آخر، صوت موجات وطنين، القفص، ومحاولة ادخال الجسد في القفص، الراديو، حركة السقوط. لكل فعل موضوع وحكاية، القلق جسد مستوى الحالة النفسية المرتبطة بالشخصيات وبيان عدم الارتياح والخوف أو التردد. 

وغالباً ما يكون القلق مصحوباً بسلوكيات تعكس حالة من التوتر عبر الحركة بخطوات ثابتة ذهاباً وإياباً، وهذا ما وظفه المخرج عبر الصراخ وتمزيق الكتب وصوت الراديو، فضلاً عن القفص والتعامل معه على أنه مكان للخلاص، فهو يشير إلى أمكنة العيش التي باتت عنصراً متأثراً بالصراعات على كل الفئات البشرية الفاقدة للثقة بالنفس والشعور بالإحباط، أو بمعنى آخر شمولية الصراع بين اليأس والأمل في النفس التي عانت الكثير. 

من ثم، عديدة هي الكتل التي توزع داخل فضاء العرض المسرحي، والتي تكتسب دلالات جمالية عبر مساحات الخيال والابتكار، وبين مساحات الواقع المنسجمة مع المضامين الفكرية والجمالية للعرض المسرحي، وهذا ما عمل عليه المخرج عبر توظيفه كتلا مغايرة، مثل الثلاجة وما يوجد فوقها من زرع قام الممثل بسقيه ومن ثم قلعه، الثلاجة تمثل أساسيات نظم وقوانين فيزيائية تعتمد التحولات السائلة الى واقع مكثف، بينما يشير بفعل السقي والقلع إلى التضاد في المعنى، مثل، الموت والحياة، والليل والنهار، والسماء والأرض، ويعرف الشيء الأول على أنه الضد والشيء الآخر المضاد له، لنصل عبر سيلان العرض إلى الترميز الصوري والمتمثل بصورة بيكيت، والتي تنطق بما لا يتناسب مع أفكار الاشتغال المعاصر في المسرح، والمتمثل بمسرحية (نعم غودو)، ليكون هناك تضاد آخر عبر رمي الصورة بالبيض، وهذا ما ينزاح بنا إلى قوانين التحولات السائلة ومحاكاتها المغايرة عبر أزمنة متعددة، وصراعات لم تنتهِ عند نقطة محددة، بل أن هناك من يحاول أن يطرق على الأبواب ليحرك الساكن ويؤكد وجوده. قدم مسرح المستحيل عرضا مسرحيا يلامس خصوصية الفرد العراقي ومعاناته المرتبطة بطبيعة البيئة، وشكل الموروث الشعبي المتمثل بالأمكنة والغناء والحرف المهنية وايضا الزي. وفي نهاية العرض المسرحي عم الصمت، وكانت هناك لحظة جلوس وعناق، وايضا ترقب وانتظار، ليطرق الجرس علينا أن نتهيأ للسفر أو الهجرة نحو

المجهول.