انتهاك

ثقافة 2023/02/20
...

  حاتم حسين


في البدء لم أصدق عيني، لذا كررت المحاولة لأتأكد؟ فقد كانت تملؤني الثقة بأن هؤلاء الوجهاء.. هم. قدوتنا، نكن لهم الاحترام والحب العميق في نفوسنا، أنا أمسيت مهزوزاً منذ تلك الكارثة التي رأيتها بأم عيني، رغم أني إلى الآن أحاول أن أوهم بصري وأغير من قناعتي بأني أنا الذي ارتكبت الحماقة في تصوري، ولكن الخيبة أنها لم تكن سوى تلك الحقيقة المرة اللاذعة التي غرست أوجاعها في اللاوعي وهزت ثقتي بأن الجميع يلهث وراء تلك الغريزة الملعونة التي طعنت أمي بشرفها وأنا أراها مريضة، ممددة على فراش الموت، لم أسرد قصتي على أمي، لكني أدركت ألا أترك أمي وحيدة بعد هذه الحادثة، ولكي أبعد عن عيني هلوسة ما رأيت، مع أن هذه الحادثة لم تنتزع من عيني ولو دمعة، بل رسمت على وجهي الذابل الحزن والوجوم، وأورثت في نفسي وعيني «الصدمة» حتى أني لم استطع أن أرمش  لساعات طويلة، مفكراً في كثير من المرات حين أخلو إلى نفسي، أو ألوم ذاتي بأني لم أحسب حسابي وأقف مع أمي المريضة كي أحميها، براءة وخجل الطفولة منعاني من أن اتدخل وأقف على رأس أمي وهي منهارة، ممددة على (سدية المشفى).. كانت الغرفة دافئة حين دفعني الطبيب إلى الخارج وقال: اجلس هنا ،لم يكن ثمة مرضى ومراجعون، كان المشفى خالياً بعد منتصف الليل، وأنا أسير في ممراته أتأمل الغرف والأسرة الفارغة، أشعر بإحساس ورعب خفي، وحين شعرت بأني ابتعدت عن غرفة الطبيب واستغرق بالفحص، عدت مسرعاً لأرفع يدي  وأطرق الباب، لكن إحساساً أوزعني وجعلني أن أنتظر، ودفعني أن أدخل عيني في ثقب الباب، لأسترق النظر، كانت الدهشة حين رأيت الطبيب يرفع ثوب أمي ثم يرتمي فوقها، أكيد أن أمي كانت فاقدة الوعي، لكني عرفت بشكل غريزي كيف جفل  الطبيب  خوفاً وارتباكاً حين فاجأته بحضوري.. شعور بالذنب حيال طفل خلق في ذهنه البريء عتمة وظلمة لا يمكن أن تنيرها أو تضيأها مهما مضت عليها الأيام والسنين، وأنا أدفع الباب بقوة

 وأدخل. 

إلى الآن كلما عاودت مراجعة المشفى مع أمي والتقيت بالطبيب أراه يشيح بنظراته ويتحاشى رؤيتي.. كنت أقول لنفسي ربما شعر بالعار من فعلته الشنعاء وخاف أن تصل القصة إلى زملائه الشرفاء من الأطباء، لكني أقسمت في داخلي حين تشتد قبضتي سأقتله، لابد من أن يدفع الثمن، سأحتفل به في نفس اليوم الذي انتهك حرمة أمي التي شاهدتني كثيراً وأنا أرقص لوحدي بحركات لا إرادية على صخب صامت لموسيقى صنعتها الآمي، المبرحة، كانت الدموع تطفر من عيني أمي وهي تحترق وتشاركني شعوري، فيما كنت أقف جامداً تدور برأسي تلك الكارثة التي اشعلت وعي الطفولة البريئة. 

إلى ذلك الوعي الذي ظل يلازمني، ويفقدني توازني وأنا مشوش، أثغب في جوف الليل، أتذكر كيف ماتت أمي على علتها وأوجاعها.. أتذكر مسرح الجريمة وأنا أغوص في التيه، ضائعاً، أحاول الوصول إلى ذلك الشبح الذي بقي يلسع ويعيش في ذاكرتي، ولم يفارقني..