من يعيد الجمهور إلى مقاعد الثقافة؟

ثقافة 2023/02/21
...

  استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 

 تشهد الكتابة الإبداعيّة في العالم العربي والعراق تضييقاً غريباً، فهي تتحرك في أيدي النخبة المثقفة فقط، حتى أنها صارت تعاني من غربة في ظل تطور أدواتها وتقنياتها الفنية بعيداً عن الأخذ بنظر الاعتبار إمكانية المتلقي ومستوياته الفكريَّة. الكتابة التي كانت وما زالت تهدف إلى حمل المضامين الإنسانيّة، إلى أكبر عدد ممكن من الناس، باتت في ليل طويل، تتقاذفها ظلمات من الغموض حتى صرنا نتساءل: هل نحن في أزمة اسمها (الكتابة النخبويّة)؟ أينطلق الكاتب في خياره وخطابه النخبوي، من غربته مع الجمهور؟ أيمكن أن يكون المجتمع ضحية لهذه النخبوية، التي تمنع عليه أفكارها حين تضع عليه شروطاً، تتمثل في ضرورة ارتفاعه إلى مستوى كبير من الفهم قد يصل إلى التعقيد؟ هل نحن في طريقنا لقتل المتلقي؟ 

في ظل هذا، علينا أن نتساءل عن الفعاليات الثقافيَّة التي تعمل المؤسسات المعنية على إقامتها، عن مقاعدها التي تشهد تراجعاً أو خلواً من الجمهور، حتى أن أكثر النشاطات، لا يحضرها إلا المختصّون من صنّاع الإبداع، بمعنى أن جمهوراً متذوقاً من خارج النخب المبدعة، بات مفقوداً منذ فترات زمنيَّة طويلة، بل أن الخطورة في هذا الغياب، وصلت حد افتقار بعض المراكز الفنيّة والأدبيّة، لحضور المبدعين المختلفين بمنتجهم الإبداعي عن نوع الفعالية المقدمة، فلا يحضر الفنان التشكيلي مثلاً إلى المحافل الأدبيّة، ولا الأديب إلى مثيلاتها التشكيليّة إلا نادراً.

فهل يعني ذلك أنَّ ثمة مشكلة في مستوى تقبل المجتمع للإبداع، أم أنها قطيعة بين المشتغلين بالأشكال والأجناس الإبداعيّة المتعددة، يمكن أن نقول إن ما يقدم من نتاج ثقافي، ليس بمستوى ما يطلبه الجمهور؟

أم أن المجتمع أصبح مشغولاً عن قضايا الثقافة والإبداع بعالم الصورة الطاغي، وأساليب التواصل الاجتماعي والبث الفضائي، هل ثمة مشكلات أخرى؟، كيف يمكن أن نعيد الجمهور إلى مقاعده؟، هذه الأسئلة عن غياب الجمهور ونخبوية المثقف العراقي، نبحث عن أجوبة لها مع نخبة متميزة من مثقفينا عبر هذا

الاستطلاع. 


من قتل القراءة والقارئ؟

الشاعر حامد الراوي، أشار في إجابته إلى قراءته في كل يوم ما يقارب دراسة أو بعضا منها، في كتاب أو مجلة أو على صفحات الشبكة العنكبوتية، صار معها الراوي يوما بعد يوم، متيقنا من فكرة بسيطة، ولكنها خطيرة على حد قوله؛ وهي أننا لا نضع القارئ في الحسبان، وأننا قتلنا التلقي.

وأضاف بقوله: أنا مثل كثير من أترابي، بدأت القراءة مبكراً جداً، بفضل الجيل الذهبي من المعلمين، وكنا نفهم ما نقرأ بسهولة ويسر، سواء كنا نقرأ للمنفلوطي أو العقاد أو طه حسين، ولا أستثني من ذلك الكتب المترجمة التي صرنا حريصين على قراءتها فيما

بعد. 

أما اليوم، فأنا، وأنا بهذا العمر، قد أعيد قراءة فقرة من دراسة مرة بعد مرات فلا أصل إلى معناها ومقصودها إلا تخمينا.

ولهذا سأطرح السؤال بسيطا وساذجا وواضحا: لمن نكتب؟

ومن المعني بقراءة تلك الكتب ومثلها الدراسات التي نراها في مجلاتنا الأدبية والثقافية، وأين نحن جميعا في صدور طلبة المدارس المتوسطة والإعدادية، ولا أستثني طلبة الكليات أيضا. 

ومن هم المحظوظون منا، ممن يحفظ ذلك السواد الأعظم الذي ينبغي أن تتجه الكتابة إليه، أسماءهم أو أسماء مؤلفاتهم؟!

إن الدراسات والنصوص تبحثان عن قارئ، ونحن قتلنا القراءة وقتلنا القارئ.


مدركات المتلقي وضيق فضاءات الكتابة 

القاص ابراهيم سبتي، يرى أن النص الذي نسوّده على الورق، سيتوجه الى النخب الأدبية والثقافية وليس إلى المتلقي الذي بات بعيدا عن كل ما يكتب، أو سيكون بعيداً في أقرب وقت لأن وسائل الكتابة وأدواتها لم تعد ساكنة، على حد تعبيره، بل أنها تتحرك وتتطور أسوة بتقدم عناصر التطور الأخرى، مشيراً إلى أن المتلقي فيما لو حرم من متابعة ما يُكتب، سيكون وضع الأدب صعباً للغاية من ناحية التعميم والانتشار.

وأضاف سبتي موضحاً: الأدب وجد لكي ينتشر.

إن التطور الهائل والمدهش الذي يحصل في مختلف الكتابة الإبداعية وأدواتها الفنية، ما هو إلا نتيجة طبيعية للتطور في التقنية المتسارعة والتي بات اللحاق بها أمراً صعباً، يحتاج إلى الجري بكل قوة للوصول 

إليها.

لكن هذا الانتشار، بات محدوداً حين نجد أن الكاتب يوجه خطابه لزميله الكاتب، أو المثقف لأن النص بات مشفراً ومليئاً بالأسلاك الشائكة، والتعقيدات التي طالت عناصره المعروفة بحجة تطور الوسائل.

فربما يتحسر المتلقي المتابع على الأيام الخوالي، حين كان يقرا نصاً وهو يستمتع به وكأنه يكتشف كنزاً. 

هل سيذهب هذا الجمال مع اصرار البعض على الكتابة بآلات مسننة ومشفرة، بدلا من الكتابة بأدوات متاحة الفهم؟

وحين تتطور أدوات الكتابة وتتنامى مستوياتها الإبداعيَّة، فربما تكون صعبة على مدركات المتلقي وفهمه وبذا ستضيق فضاءات الكتابة الإبداعيَّة، وربما تبتعد عن رسالتها المحددة لأنّها تطورت هي أيضا وهو أمر ينذر بفقدان المتلقي أو قتله. 


كتاب ملغز ونقد حداثوي

الشاعر نامق عبد ذيب قال: هذه مشكلة كبيرة يا صديقي، أعاني منها منذ زمن، فما أن أبدأ بقراءة مقال نقدي، أو كتابة أدبيَّة أو إبداعيَّة ما حتى تبدأ منغصات القراءة منذ السطر الأول، فأضيع في كلام يحاول كاتبه أن يتحاذق عليَّ أنا القارئ المسكين الذي اشتريت كتابه أو صحيفةً أو مجلّة فيها هذا المقال أو تلك الكتابة الأدبيَّة، وأنا أعدّ هذا من سوء الحظ أن أقتطع من رزق عيالي ثمنًا لما أظنه غذاءً روحيّا وفكريّا لكنه في الحقيقة، غُثاء متراكم من مفاهيم ومصطلحات وأفكار مغلقة مصبوبة في صفحات لامعة بألوان برّاقة، وهذا ما يحدث معي أنا الذي قضيت عمري أقرأ وأكتب وأكاد أعد نفسي من (النخبة المثقفة) التي تطاردُ الكتابَ والمجلة والصحيفة بشتى أنواعها واتجاهاتها، هكذا حتى هذه النخبة لا تفهم ما يقال، وهذا ما يرسّخ المشكلة ترسيخا مأساويّا. 

فالسؤال الذي طُرح على أبي تمّام عن كتابته ما لا يُفهم وإجابته عنه بلماذا لا تفهم ما يُقال، ربّما كان موجّها لقارئٍ عادي وليس للنخبة المثقفة آنذاك، هذا ونحن نتحدّث هنا عن القارئ النخبوي إن صحَّ القول، فكيف بنا ونحن نتحدّث عن القارئ (العادي) الذي يشتري مجلّة أو صحيفة أو كتابًا فيفاجأ بمقال ملغّز أو بنقد (حداثوي) كتبه أحد أُلعبانات النقد الذين كلّ همهم أن يملأوا فراغ الأوراق بالأحاجي والطروحات والمصطلحات المترجة ترجمة سيئة، أو بقصيدة نثر لا يُعرف رأسها من رجليها كتبها أحدهم ممن صاروا بين غمضة عين وانتباهتها (شعراء) يهذون بأمراضهم ويريدون إصابة القرّاء بعدوى مميتة لا تنفع معها أقوى المضادات الثقافيَّة، ثم أكاد أقسمُ أنَّ بعض من يكتبون هذه الكتابات (الإبداعيَّة!) ربما لا يفقهون ما يكتبون، وأننا إذا ما طلبنا منهم تفسير بعض ما يسطرونه لأدخلونا في فذلكات بعيدة كل البعد عن مقاصدهم في الكتابة.

أجد أن هذا الاستطلاع مهم لأنَّه تجرأ على طرح قضية ربما لا يعترف كثير منّا في طرحها مخافة الاتهام بالجهل أو عدم مواكبة (التطورات) الثقافية التي حصلت في عالم الكتابة في شتى أنواعها.


الثقافة بوصفها سلعة اقتصاديَّة

الروائي علي حسين عبيد، يرى أن التساؤلات التي تطرح عبر هذا الاستطلاع عن غياب الجمهور مهمة جداً، وأنها تنم عن متابعة دقيقة للواقعين الثقافي والأدبي، لذلك فإنَّ الاجابة عنها تثير وتستدعي تساؤلات أخرى، على حد قوله، وطرح عبيد عددا منها: هل ما تقدمه المؤسسات المعنية بالثقافة والأدب، يمثل أو يقترب من الحاجة الثقافيّة الفعلية للجمهور، ويتجانس مع تطلعاتهم واهتماماتهم، أم أنها لا تتحلى بهذه الميزة المهمة؟.  

وتساءل أيضا: لماذا تصرُّ بعض المؤسسات وهي تمارس دورها الثقافي الأدبي- على استثمار هذه الفعاليات الثقافية لأغراض شخصية مصلحية واضحة؟

وقدم تساؤلاً آخر هو: هل هناك تنسيق بين هذه المؤسسات، بحيث تتكامل فعاليات الجميع ولا تتناقض مع بعضها. 

ثم قدم عبيد تساؤلا يرى أنّه جوهري مفاده: لماذ لا يتم التحرّك من لدن المعنيين بالثقافة والأدب، على القطاع الخاص للارتقاء بمستوى الثقافة والنشاط الأدبي، بحيث تُطرح بعض الفعاليات على شكل اعلانات يتم الترويج لها في وسائل مختلفة مع وضع حوافز تشجع الجمهور على الحضور؟، وغير ذلك مما يساعد على جعل الثقافة (سلعة اقتصادية) مثلما تتعامل معها المجتمعات والدول المتقدمة.

واستنادا إلى التساؤلات التي تولّدت عن التساؤلات الأولى، أضاف عبيد قائلاً: من الواضح أن الجمهور عندما لا يجد ضالته في المضامين الثقافيَّة، فهو لا يهتمُّ بها ولا يهتمُّ بالحضور وهذا مؤشر على خلل بمن يدير الثقافة، كذلك هناك (دخلاء) على الثقافة تسلقوا على أكتاف الأدباء والمثقفين، وتصدروا مواقع ثقافيَّة، فجيّروها لمصالحهم الخاصة، هذه الأمثلة الفرديَّة مهمّة، لكي نكشف أن هناك أشخاصاً يتحكّمون بالفعل الثقافي لمصالحهم الذاتية، كما أننا نلاحظ بوضوح، عدم التنسيق بين هذه المنظمات بحيث يبدو المشهد الثقافي غارقاً في الفوضى، بسبب غياب التنسيق، ولا ننسى كسل العاملين في إدارة الثقافة من ابتكار حلول لتفعيلها مثل إشراك القطاع الخاص في دعم الثقافة، إن معالجة هذه الأسئلة تعد بمثابة الحلول التي يمكن أن تعالج الحالات التي طرحتها تساؤلاتكم المهمة. 


وسائل الترويج للمنتج الإبداعي

الشاعر نوفل الصافي، يجد أن ثمة مشكلات كثيرة في وصول إنتاج الاديب إلى جمهوره، فلا ترويج ولا إعلان، أما غياب وسائل الإعلام المرئي عن نقل المنتج الإبداعي بشكل متميز، فيكاد يكون غيابا صارخاً، للدرجة التي تفتقد الثقافة العراقيّة فيها قناة ثقافيّة مختصّة بإيصال هذا النتاج، بتشعّباته الأدبيّة والفنيّة كافة، من رواية، وقصة، وشعر، وتشكيل.

ولفت الصافي، إلى أنّ الوصول إلى الجمهور، بات فنّاً وصناعة، ولكن الوضع السياسي والأمني في البلاد، يؤثر في إمكانية تطور هذا الفن، كما يؤدي إلى تدهور واقع المؤسسات الثقافيّة، وانقطاع السبل بالأديب.


المؤسسات وفخاخ الشهرة الجديدة 

الشاعر محمد حسين الفرطوسي، تحدث عن مشكلة النخبويّة، وارتباطها بغياب الجمهور عن مقاعده، في المحافل الإبداعيّة الثقافيّة، لافتا إلى أن وجود النخبة الأدبيّة أمر ضروري، وهي مصدر ثراء فكري وإبداعي، كلما اتسعت وتنوعت هذه النخبة، اتسع مصدر الثراء والغنى، مشيراً إلى أن المتنبي والجواهري والسياب وغيرهم، كانوا في زمنهم ضمن هذه النخب، إلا أنهم أصبحوا الآن رموز وطنيّة، يمثل منجزهم رصيداً إبداعيّاً للبلاد كلها. 

وأضاف الفرطوسي قائلاً: من هذا ننطلق إلى فهم أهمية وجود هذه النخب، ولكن في الوقت نفسه، علينا أن نعلم أن حياتها ضمن مجموعة من الحصون السياسية والاجتماعية، سيسهم بضياع ما تحدثنا عنه من غنى، كما سيجعل هذه النخب، غريبة وبعيدة كل البعد، بمفاهيمها وطروحاتها عن المجتمع، وأجد أن على الدولة الانتباه لخطورة ما تحتاجه المرحلة الآنيّة، من عمل ثقافي، وأن تنتبه إلى ضرورة تكسير جميع القيود المفروضة، بين النخب الثقافية والمجتمع، أن تسعى الدولة ممثلة بوزارات الثقافة والتعليم والتربية والشباب والرياضة، إلى العمل على مد جسور كثيرة، بين جمهور هذه المؤسسات والنخب، بشعرائهم وقصاصيهم وروائييهم وفنانيهم وصحفييهم.

أجد أن الدولة، وخاصة إعلامها المرئي، ما عاد يهتم كثيراً بالأدباء، ويمكن من خلال نظرة فاحصة، أن تكتشف أن القنوات التلفزيونية، تعمل على إرضاء الجمهور، وليس على صناعة جمهور مثقف واعٍ، بدليل أنّها تستضيف يوميا مشاهير التواصل الاجتماعي، الذين لا يملك أغلبهم محتوى مهماً وناضجاً، بل إن كثيراً من القنوات التلفزيونية، سقطت في فخ الشهرة المجانية العابرة، فهي أيضاً غير قادرة على صناعة المشاهير، بقدر ما تتابع المشهورين وتستضيفهم في برامجها.