الحريَّةُ من وجهةٍ معرفيَّة

ثقافة 2023/02/21
...

 ميثم الخزرجي


ماذا يعني أن يكون الإنسان حراً؟ وهل خلق ليكون هكذا؟ هل ثمة سلطة جامعة بكل تصنيفاتها سياسية كانت أو لاهوتية تقيّد وتحدّ من حركته؟ وهل للحرية منازل معينة تعنى بالفرد حيال المجتمع ليس لأحدٍ الحق من تخطيها وتعدي محتواها. لعل مفهوم الحرية بكل ما تحمله هذه المفردة من حمولة جدلية ذات نزعة وجوديّة لها تداعياتها المؤثرة على الطابع المعيش، مرتبطة ارتباطاً ضمنياً بأصحاب المشاريع الجمالية الذين لهم القدح المعلى في التعبير عن واقع أمتهم من دون بدائل وضرورات جاهزة تلزمهم على الصمت أو المهادنة، فقد تكون النظرة الخاصة بتكوينهم السيكولوجي مهمة بأن تبدد الحاجز وتلغي الأغلال لينطلقوا بعدها من دون قيد أو شرط. ثمة جدليّة عظيمة لجوهر المفردة وعلاقتها بالإنسان، فمنذ بزوغ الصوت والحرف واللون تعالى النسيج المتضمن هذا النسق أزاء المحددات المفروضة على الواقع وما تتسق من أبعاد لها اتصالها الفعلي بالفرد ليكون هناك نزوع جاد وحقيقي نحو هذا المضمون بسب سعة المخاضات المترتبة على طبيعة العالم وانحسار الما حول بما يتخلله من هاجس مأزوم يشلّ الارض ومن عليها، وقد يُستوفى هذا الغرض حال الشروع بالكتابة وأن كانت موضوعة النص خارجة عن الغاية المرجوة لكنها تأتي كإشارة لها اعتباراتها الرمزيّة التي تعضّد وهج النص وتزيد قيمته الإنسانيّة أو تتسلل إليه من دون أن يشعر، لذا تجد أحياناً أن من يتغزل بحبيبته يحاول أن يعبّر عن حالة الشقاء وطبيعة الطقس الدائر وما يحيطه من بؤس لينفلت بعدها إلى منطقة بعيدة عن الموضوعة التي يسعى إلى توثيقها ليظهر كنهه كحالة نسقيّة غير معلنة، وعلى صحة القول، إن ثورة الروح السائرة والمطالبة بعموميتها متقمصة المشغل الأدبي والفني، وإن كانت الحاجة المترتبة على حصالة الأديب بتدوين نص يختلف بمساره ودلالته، أو إعطاء لوحة تشكيليّة غايتها التصريح بما هو آتٍ لكنها بلباس آخر، فقد يرتدي الثوار رداءً مغايراً عما هو سائد، وأن هاجساً كهذا ناتجاً عن بنية مشكّلة غير قابلة للدحض والمراهنة ولها  شروحاتها العتيقة والممتدة أيضاً.

 بطبيعة الحال، أجد أن الحافز الذي ينطلق منه هذا المفهوم يأتي من خلال معيارية السؤال واتّضاحه وما عناه من الإيهام واللبس الحاصلين أزاء الواقع، فالقول الأول للفلسفة، وقد أوكل أفلاطون جدية الروح المستنيرة، بأن يشرع الأبواب الموصدة أمام الكثير من الحتميات الناشئة وتفنيد محتواها لتأتي جمهوريته التي أعطت سنناً ونواميسَ غايتها تبجيل الإنسان ومنحه مساحة شاسعة للتعبير والتصريح والمشاكسة وفقاً لماهية العقل ومحدداته التي تفرض، فالحرية بمفهومها الأفلاطوني حرية مستجابة، غير متفقة مع السياقات المتوارثة، تسأل وتطالب وتلغي وتعلل، لكنها غير منفلتة، لها معاييرها التي تدعو للمطالبة والمناقشة في آن، وقد أسس الفلاسفة من بعده لمثل هكذا طرح ليصبح الدافع الذي من ورائه إزالة العقبات المترتبة على تنشئة الفرد، فضلا عن الممارسات التي تحيط به.لكن هل أن تمجيد الحرية والسعي نحو مقتضياتها مقتصر على المشتغلين بالمعرفة والأدب؟ وأن كان كذلك، هل على الجميع مزاولة الفعلين الجمالي والمعرفي ليصلوا إلى هذا المصاف؟ وهل الحرية مطلقة أم نسبية؟ وهل تحتاج إلى وعي تام لكي تمارس، وهل ثمة صلة بينها وبين التحرر.

 واقعاً علينا أن نتوقف كثيراً عند الباعث الفعلي لهاجس الإنسان والحاضنة الثقافيّة لديه تبعاً لبيئته ومدى تعافي رؤيته حيال التفكر بأن يكون حراً، في حقيقة الأمر، أجد أنّ للحرية مفهومين، الأول مبتذل ورخيص غرضه معاكسة المألوف من دون غاية دالة أو وجهة تبرّر السبب ناجمة عن فراغ معرفي غايتها الإطاحة لا التقويم، وهذه لها نتائجها المستحصلة من الإعلام المرئي والمسموع الذي يصل من دون رقابة، لذا أصبحت المطالبة بلا معرفة وقد يكون جمهور هذه الطائفة خالياً من أي توجيه أكاديمي أو مجتمعي لذا يكون المؤهل الوحيد لهذا المفهوم هو استيطان الذهن نحو التوجه لما هو نافع والتحرر من الخشية بمحددات لا تؤثر على الآخر ولا تسيء له، المفهوم الآخر مفهوم مُجد ناتج عن مشغل معرفي فطن له قيمته الفكرية يحاول أن يبني مجتمعاً مناهضاً للظلم والفساد غايته تحليل الرؤى من خلال ورشة جدلية عامرة تعنى بتحليل ومناقشة حفنة من الأسئلة التي استقرت في ذهنية المجتمع وأرست دعائم من وهم. إنَّ التأسيس لمنظومة ذهنيّة تعنى باجتراحات فكريّة لها تأويلاتها القارة تخضع بحسب الفهم المعني للفرد، وهذه نتيجة كلية مرتبطة بهيكلية المجتمع ومدى تقبله واستيعابه لها، لذا يحتاج إلى فك اللبس الحاصل بين التمرّد بمعناه السطحي والمترهّل وما يصاحبه ويتصل به من نزق على أنّه حرية مثلى، وبين المستقر الحقيقي الذي يظهر كممارسة وفعل متفق بصيرورة الإنسان وإصراره على إزاحة العقبات التي تصرف محتواه وتمنعه من مزاولة دوره في تثوير وعيه للسعي بأن يحرّض دوره في الحياة من أجل التغيير.