متى ينتهي الألم السوري؟

ثقافة 2023/02/22
...

وداد سلوم*

“اسبحي من أجل الذين تحبينهم, من أجل الذين ماتوا، ومن أجل الذين نجوا”

هكذا تقول سارة مارديني لأختها يسرا مشجعة إياها على الاشتراك في الألعاب الاولمبية  في ريو دي جينيرو باسم فريق اللاجئين  حيث ليس متاحاً لها - كلاجئة - الاشتراك باسم بلدها سوريا وهذا ما شكل لديها صدمة حقيقية لأنه الحلم الذي سعت إليه وتدربت يومياً قبل هجرتها وهو الحلم الذي زرعه فيها والدها بعد أن حصلت على جوائز عدة  وتابعت تدريبها القاسي من أجله ولم تتوقف رغم القذائف  والحرب والتفجيرات  ورغم الرعب وفقدان الأفق ، ولكنها وقبل أن يصبح حقيقة غادرت إلى أوربا.

إنه فيلم (السباحتان ) الذي أطلقته نتفليكس عن السباحتين السوريتين سارة ويسرى مارديني في تشرين الثاني من عام 2022 ويحكي قصة الأختين الشابتين  من العاصمة دمشق وقد كان والدهما سباحاً  منعته ظروفه من تمثيل بلده في الأولمبياد  فوضع حلمه بهما و رجاءه بأن تمثل يسرى وطنها في الألعاب الأولمبية  حتى صار هذا أملها الأكبر و شاغلها الذي تسعى إليه بلا توقف  .

تتغير الحياة تحت ضغط الحرب وتصبح الأحلام بعيدة  والحياة اليومية أكثر صعوبة مع الأخطار المستجدة  والتي صارت عائقاً أمام متابعة التدريبات حيث وقعت ذات يوم  قذيفة هاون في المسبح أثناء تدريب يسرى ولحسن حظها لم تنفجر إذ خففت المياه من قوة سقوطها ، وبعد تلك الحادثة  توافق يسرا أختها سارة في قرار الهجرة وتنجحان في أخذ موافقة الأب الذي كان يرفض باستمرار ويتمسك بالبقاء لأسرته مجتمعة . 

على أمل أن تصلا  أوروبا قبل أن تكمل يسرى الثامنة عشرة لتتمكن من لمّ شمل العائلة وإنقاذها ، هكذا تكون المعادلة أمام يسرى تأجيل حلم الأولمبياد  أمام إنقاذ العائلة .  يرضخ الأب أمام الأختين مشترطاً سفر ابن عمهما معهما ومتمسكاً  بوعد ابنته يسرى بأن تتابع  تدريبها أينما حلت وتمكنت من ذلك فيرسل معها  الميداليات التي نالتها حتى ذلك الوقت لعلها تعينها في سفرها  وطريقها الجديد نحو الحلم .

الميداليات التي تضطر إلى رميها في البحر حين يبدأ الزورق ( البلم) بالغرق .

السفر في قوارب الموت

ورغم وعــــــــــــــــد الأختين لوالديهمــــــا بعدم السفــــــــر بالبلم لصيته في حمل الموت للسوريين لكنهما وانسياقاً مع أرتال المهاجرين ولعدم الخـــــــــــبرة  وجهل اللغة التركية وأمام الرغبــــــــــة بالوصول الســــريع  تقرران السفر بالبلم.

يصور الفيلم ارتباك المهاجرين  وهم  من جنسيات مختلفة وخضوعهم للسماسرة والمهربين الذين يتعاملون معهم بكل نذالة واستغلال ويجعلونهم يركبون مركباً عتيقاً تم إصلاحه وتلصيقه  عدة مرات ومرات  في مغامرة حقيقية تقطع الأنفاس.

 حيث يترك  صاحب القارب  المجموعة وحدها  بعد أن يعلّم أحد الشبان تشغيل المحرك  الذي يتوقف بعد عشرين دقيقة في عرض البحر ويبدأ تسرب المياه إلى الزورق ، ورغم المحاولات العديدة لا يعود المحرك للعمل  ، كمالا يجدي رمي الحوائج والتي لا تتعدى حقيبة الظهر في منع تسرب المياه ومع هذه الريح والموج العالي وتسرُّب المياه والوزن الزائد للركاب , تقف المجموعة في مواجهة احتمال وحيد وهو الغرق ، إنها نفس المأساة تتكرر في كل مرة وقد دفع ثمنها آلاف اللاجئين من كل الجنسيات.

   لكن  الحظ يبتسم لهذه المجموعة لأن بينهم سارة ويسرى مارديني إذ  تبادر سارة بسؤال المجموعة عمن يجيد السباحة و ترمي نفسها في البحر من دون تردد  ثم تلحق بها يسرى متحدية خوفها لتقوم الأختان بربط خصرهما بالحبل المحيط بالقارب وتسبحان  في عرض البحر جارتين القارب ومن عليه إلى البر في رحلة ليلية تخطف الأنفاس والقلب ودموع  المشاهد  الذي لا يستطيع النظر إلى ذلك على أنه لعبة سينمائية أو تشويقاً إخراجياً ،لأنه  ببساطة ما حدث في الحقيقة لقد انقذت الفتاتان البلم بكامل ركابه من الغرق،  وبشجاعة مذهلة ونادرة .

 تخبرنا يسرى في لقاء تلفزيوني أن ما حدث في الفيلم كان أسهل من  الواقع فالحبل لم تربطاه على خصرهما بل امسكتاه باليد وتابعتا السباحة بيد واحدة مما زاد الصعوبة حتى وصلتا إلى شاطئ اليونان  . لم يكن هذا المشهد الأول بهذه الجودة الفنية فمشهد سقوط قذيفة الهاون في المسبح أيضاً كان أكثر من رائع في جودة تأثيره وتصويره للحقيقة .

وصلوا أخيراً إلى اليونان  حيث نرى  على الشاطئ  تلة من ستر النجاة  وهي ما خلعه الناجون  وتشكل مؤشراً على عدد الواصلين  عبر هذا الطريق بينما لن يجد الغرقى ما يدل على عددهم الكبير  سوى بعض الأجساد التي قد يقذفها البحر إلى الشواطئ. 

يكمل اللاجئون رحلتهم إلى أوروبا عبر الكثير من المخاطر ومكر المهربين وتعرضهم للابتزاز والضياع لتصل الاختان بعد عناء إلى ألمانيا حيث تسعى يسرى هناك  لتحقيق حلمها باحثة عن مدرب يتبناها لا تثنيها لحظات الضعف والإحساس بالغبن ، والصدمة أولاً بأنها لن تستطيع لم شمل العائلة بسبب السن،  وثانياً أنها لن تستطيع المشاركة بالأولمبياد  كونها لاجئة . ومع ذلك  تتابع تدريبها البدني بإصرار لافت إلى أن يتم إحداث فريق رياضي  لللاجئين ولكن المشاركين فيه لن يقوموا بتمثيل بلادهم وهو ما يثير حفيظة يسرا إذ تشعر أنها تخلت عن حلمها وربما بخيانته وخيانة حلم والدها لتقف من جديد اختها سارة بقوة إلى جانبها وتخاطبها بتلك الكلمات التي ذكرناها بداية .

تشارك يسرى باسم فريق اللاجئين،  لتمثل ليس بلداً واحداً وإنما الانسانية كلها.

بينما تعود أختها سارة إلى اليونان لتساعد اللاجئين الفارين من بلدانهم التي تمر في ظروف استثنائية خطيرة. ما يضعها في مواجهة القوانين الدولية الظالمة .

الموت في سبيل الحلم

إنه ذات الحلم الذي دفع العداءة الصومالية  الشابة (سامية يوسف عمرو) للهرب بعيداً عن الحرب الطويلة والقائمة في الصومال متجهة إلى  أوروبا  علّها تتمكن من متابعة   تدريبها هناك لتمثيل بلدها في الأولمبياد العالمي حالمة بالفوز ورفع اسم بلدها وعلمها في الأولمبياد وهي التي كانت قد شاركت في أولمبياد بكين  من دون أن  تحرز أي فوز بسبب صعوبة التدريب في الصومال .

 يأخذها الحلم   لتبدأ رحلة  لجوء صعبة من بلدها إلى إثيوبيا ثم ليبيا  و عبر البحر إلى إيطاليا في مراكب الموت  حيث يسقط مركبها على سواحل إيطاليا وتقضي أمام نظر خفر السواحل الإيطالي إذ  يغرق الركاب الذين لا يجيدون  السباحة دون أن يهرع لإنقاذهم أحد أو يرمي أطواق النجاة لهم بل يمضون في مراقبتهم وهم يغرقون بقسوة .

 قصة العداءة الصومالية سامية يوسف عمر التي قضت أمام سواحل إيطاليا  كتبها الروائي الإيطالي جوزبه كاستيلا  بعنوان (لا تقولي إنك خائفة ) وقد نال عنها جوائز عديدة وحققت مبيعات كثيرة كما ترددت فكرة تحويلها أيضاً إلى فيلم سينمائي.

من الحلم الشخصي إلى مهمة انسانية 

نجحت يسرى مارديني في تحقيق المشاركة بالأولمبياد باسم فريق اللاجئين ونالت بعد ذلك منصب سفيرة النوايا الحسنة للعناية باللاجئين وتقول : إن لقاءها مع اللاجئين يدفعها دوماً لتحقيق النجاحات إذ فوجئت كثيراً حين كان اللاجئون يقولون لها إنها كانت قدوتهم  وهم  يرون ما تحملته.

أثناء مشاهدة الفيلم وفي  مشهد (البلم)  تحديداً كنتُ لجوجة وأتساءل متى سينتهي هذا الفيلم ، لعلها الرغبة بتقليل الألم  الذي كان واقعاً والرغبة بتقريب النجاة للبطلتين وبقية الركاب لشد ما شعرت بحقيقية ما أشاهده ، إنه الاختطاف الذي تمارسه السينما علينا.

 فالفيلم  وهو من إخراج  المصرية سالي الحسيني مشغول بدقة ومهارة  تقدم الحادثة كواقع حقيقي ومؤثر جداً، إضافة إلى أننا نعرف وندرك أنه حدث ويحدث كل حين ولو استطاعت الأسماك الشهادة لحدثتنا بالكثير كما  تشهد السواحل  التي تحتضن جثث الغرقى .

تقول المخرجة  سالي الحسيني: إن تصوير مشاهد عبور البحر كانت من أصعب المشاهد.

تشارك في الفيلم المغنية السورية لينا شماميان  في مشهد قصير لكن أغنيتها شآم كانت بمثابة موسيقا تصويرية لبعض المشاهد.

التصوير وتألق الممثلتين الشابتين اللبنانيتين :  منال عيسى ونتالي عيسى وأدائهما المتميز والحقيقي جعل  الفيلم يبدو في عداد الوثائقي .

 أنتجت الفيلم نيتفليكس ليكون حدث عام 2022 وقد تم ترشيحه لنيل جائزة الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون بعد الأصداء المبهرة جماهيرياً  إذ تصدَّر قوائم المشاهدة عربياً  وفي عدة دول عقب إطلاقه. وبعد أن شارك في العديد من المهرجانات : مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان تورونتو ومهرجان لندن السينمائي.

                                            *   شاعرة وكاتبة سورية