{آرثر وجورج} الواجب الفكري بين النبيل والهجين

ثقافة 2023/02/22
...

جينا سلطان


 الكتابة فوق الكتابة، المعادلة للحلم داخل الحلم، منحى إبداعي يتوافق مع المبدأ الدائري للكون، الذي يضبط العمليات الحيويَّة ونظم التفكير داخل الإنسان. ويستلزم تكامل الموجتين الطاقيتين للمؤلف والناقد، بحيث يرفع الأخير معاً التوقعات من النص الأدبي، ويقوده نحو إشراقات تصبّ في متاهة الإنسان ـ السؤال. وهو ما فعله الكاتب البريطاني دانييل ديفو في روايته روبنسون كروز، حين أعاد كتابة أسطورة حي ابن يقظان التي ترصد مغامرة العقل البشري مع الإيمان. وكان ابن طفيل الأندلسي قد أعاد كتابتها نقلاً عن ابن سينا الذي يعدّ المؤلف الأول لها، وبعده أعاد كتابتها السهروردي.

 ثمة أمثلة عديدة جداً على التمازج الفكري الخلاق بين المؤلف والناقد، نذكر منها كتابات الروائي الفرنسي ميشيل تورنييه، الذي أعاد بدوره كتابة روبنسون كروز تحت عنوان جمعة، إضافة إلى أعماله ذات الإسقاط التاريخي مثل جيل وجان، وأليعازر. والمؤلف البريطاني جوليان بارنز الذي فاز بالبوكر عن رواية الإحساس بالنهاية، وترجم له إلى العربية كتابا ببغاء فلوبير وآرثر وجورج. واللافت للنظر أنَّ بارنز يعمد إلى إحياء مرحلة تاريخية إشكالية، ويتخذها معبراً لسبر الأشواط التي قطعتها مغامرة العقل البشري، ويقارنها بنتائج العزلة الروحية المفروضة على الإنسان الغربي في زمن الحضارة الاستهلاكية. لذلك يقسم نصه “آرثر وجورج” على شخصيتي الباحث عن المعرفة، والمؤمن بعدالة القانون الوضعي، ويجعله وفق ثلاث مراحل: البداية، بداية النهاية، والنهاية، بحيث يقود إدراك زخم الحياة وإغلاق مغامرتها بالموت نحو معاينة أوسع لماهية الحقائق الناظمة للوجود.

البداية

 “انتظر وشاهد واعبر الجسر عندما يصلون إليه”؛ مثل إنكليزي يعبر عن مخاتلة الموت، لدى عرق عُرف بالافتقار إلى النزعة العاطفية، فاخترع لعبة الكريكت ليختبر الشعور بالخلود. لذلك يختزل نص بارنز بالسؤال التالي: كيف يمكن إسباغ المغزى على أيِّ بداية إن لم تعرف ما النهاية، وما الغاية من الحياة إن لم تعرف ماذا يحدث بعدها. وتتوزع هواجس البحث عن الإجابة بين شخصيتي الكتاب، آرثر الذي يشك في الإيمان اللاهوتي المجرد من المنطق، وهو أكبر مجاز على الإطلاق لدى الشعب، وجورج الذي ينفق معظم أيامه على قوانين نقل الملكية؛ العمل الخالي من الخيال والتنافس الحر للفكر. 

 يبتدئ بارنز نصَّه بفكرة مواجهة الموت، التي تشكل أساس الهلع والذعر عند الإنسان المستغرق في النزعة المادية. لأنَّ الموت يضع نقطة النهاية لفرصة حياتية وحيدة، نادراً ما أتاحت لأي كان مهما اجتهد وصابر كي يطوق كل المعارف ويكتنز جميع المشاعر ويعايش مختلف الخبرات والتجارب الحدية منها وتلك المستمرة والمتواصلة تحت سقف الاعتياد واللامبالاة. لذلك تؤثث فطرة الحركة عند الطفل آرثر ذي الأعوام الثلاثة مشهد الذاكرة الأولى، حيث ترقد الجدة فوق سريرها ميتة بلا حراك، فتبذر نواة البحث والتقصي عن رحلة العقل مع سؤال ماذا بعد الموت، في ذهن الرجل الذي سيحتل المرتبة الثانية في بريطانيا بقدرة تأثيره في جيل الشباب، بعد مواطنه كيبلينغ؛ السير “آرثر كونان دويل”.

 يشير بارنز إلى نقطة التحول المبكرة في حياة آرثر، حين اكتسب الصبي الصغير أمام مرأى الجثة الهامدة ذاكرة، فتوقف للتو عن كونه مجرد شيء، بينما عادت الجدة التي فقدت تلك السمة التي نمّاها الطفل إلى كونها مجرد شيء.. وما بلغه هذا الشيء، أو بعبارة أدق، ذلك الاستحداث الطارئ عندما حدث التحول الهائل، مخلفاً وراءه “شيئاً” فقط، أصبح ذا أهمية مركزية لآرثر. بالمقابل، لا يحتفظ جورج بذاكرة أولى، بل هناك سمات تدل على صبي جاد وخجول وفطن في استشعار توقعات الآخرين، فقد نشأ وترعرع في بيت الكاهن شاربوجي، والده، تحت رعاية الآية الإنجيلية: “أنا الطريق والحقيقة والحياة”، التي تتلازم مع وقع الكلمات عليه، وتؤطر في الوقت عينه افتقاره إلى الخيال.

 تبنى الرواية على التقابل بين شخصيتي آرثر وجورج، على خلفية الفصل العنصري في بريطانيا عند نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والذي شهد تزايد الاهتمام بالنزعة الروحانية. فيؤطر بارنز اللبنة التي بنيت فوقها هيكلية المحراب الإبداعي عند آرثر، والذي يعود إلى اكتظاظ المسافة بين الكنيسة والمنزل بشخوص الحكايات والتعليمات التي تمررها سلطة أم شابة، تجاهد لإزالة خوف طفلها من فكرة العقاب الأبدي اللاهوتية، فترشده بدون أدنى عمد إلى طريق المجد.. بالمقابل، ثمة أب رسام، مبدع في إنجاب الأطفال، لكنه عاجز عن توفير الحياة الكريمة لهم. 

 نضج آرثر ليصبح شاباً بديناً مفعماً بالحيوية والحياة، يجد العزاء في مكتبة المدرسة والسعادة في ملاعب لعبة الكروكيت، ويكتشف العلاقة بين السرد والمكافأة، لكونه جائعاً على الدوام.. ثم يستنتج عقب تخرجه طبيباً أنَّ “الروح، بقدر ما يمكن الاعتراف بهذا المصطلح، هي الأثر اللاحق الإجمالي لجميع الوظائف الوراثية والشخصية للعقل”. ولأنَّ المعرفة لا تتوقف مطلقاً وحقائق اليوم قد تصبح خرافات الغد، لذلك لن يتوقف الواجب الفكري عن مواصلة البحث. وهو ما يدفعه لمواجهة أكثر العقول التأملية في المدينة، وإلى التورط في تجارب التخاطر واستحضار الأرواح. ثم احترف الكتابة حين أوقعه تخصصه بطب العيون تحت مطرقة البطالة، وصعد ميله نحو الكتابات الخيالية التي تنشر مسلسلة في الصحف، فيولد بطله الشهير شارلوك هولمز.

 بالمقابل، تتخلخل علاقة جورج بالكنيسة حين يحوله مفتاح ملقى عند عتبة منزل الكاهن إلى مشتبه به، تحوم حوله الشكوك لكونه من أصول هندية باريسية؛ وهي مجموعة دينية في شبه القارة الهندية تمثل بقايا الزرادشتيين الإيرانيين الذين استوطنوا غربي الهند قبل ألف عام. أما الكاهن فتصله رسائل مليئة بالحقد والتهديد عقب طرده لخادمة حاولت مراودة الفتى عن نفسه. ثم تترافق الرسائل بالعثور على حيوانات نافقة في حديقة المنزل، وبعدها تتطور حملات الكراهية إلى تشهير علني فوق صفحات الجرائد. ولأنَّ الكنيسة هي المركز بالنسبة لجورج يرفض التعامل مع مظاهر الكراهية كنتيجة للنزعة العنصرية، التي تكرسه في دور الضحية والمثال الذي يقتدى به. فيذكره الأب بتاريخ 1892، الموافق لانتخاب أول نائب في البرلمان من أصول هندية باريسية، كي يتجاوز مطب التعثر بالأشخاص الساذجين الذين لا يتفقون معه على تشارك المواطنة. 

بداية النهاية

 أثناء انغماس آرثر بنجاحه تصاب زوجته بالسل، ويصدم بأنَّ والده كان فناناً كبيراً، استخف به أقرانه، واستحق معرضاً بعد وفاته في أدنبره. وبينما استمتع الابن باحتضان الشهرة والمجتمع لم يعرف والده المنبوذ إلا احتضان سترة المجانين، رغم أنه لم يكن مجنوناً. وتزامن ذلك العام بحكم المؤلف النافذ الصبر على محققه هولمز بالموت مع عدوه اللدود موريارتي، بعد أن بدأت شعبيته في إحراجه وحتى استفزازه.. والمفارقة المضحكة أنَّ الصحف اللندنية لم تتضمن أي نعي للأب دويل، لكنها امتلأت بالاحتجاج والفزع لوفاة محقق جرائم خيالي غير موجود، ترافق بارتداء شباب المدينة عصابات الكريب على قبعاتهم حداداً عليه. 

 شبَّ جورج على الإيمان بالعمل الجاد والصدق والادخار والإحسان وحب الأسرة، وعلى الإيمان بأنَّ الفضيلة هي مكافأة بحد ذاتها. وفي الثالثة والعشرين أصبح محامياً، يشعره القانون بالثقة والسعادة، لأنه يجسد رحلة من الارتباك إلى الوضوح بعكس التأمل في الكتاب المقدس، حيث ثمة قفزات يجب القيام بها دوماً من الحقيقة إلى الإيمان ومن المعرفة إلى الإدراك، وهو ما أثبت أنه عاجز عن القيام به. 

 إلى أن أعلن مرض زوجته عن نفسه، امتلك آرثر كل شيء افترضه العالم ضرورياً لجعل الرجل قانعاً. ومع ذلك لم يستطع أبداً التخلص من الشعور بأنَّ كل ما أنجزه ما هو إلا بداية عديمة الفائدة ومضللة، وأنه خلق لشيء آخر. وبدأ يتساءل عن ماهية الحياة وهل تشكل أرضية لشيء مختلف تماماً.. ثم أدرك أنَّ الإيمان الذي أقرته المادية لعنة مضاعفة، أصابت كل أمة وحضارة لاحقة ترعرعت تحت حكم الكهنوت؛ فقد “استنتج الخائف والذي يعوزه الخيال أنَّ والاس وداروين قد أوصلانا إلى عالم ميكانيكي بلا إله، تركنا وحدنا على السهل الداكن”. لكنه توافق مع اعتقاد والاس نفسه بأنَّ الانتقاء الطبيعي لا يمثل إلا تطور الجسم البشري، وأنَّ عملية التطور يجب أن تستكمل في مرحلة ما بتدخل خارق للطبيعة، والمتعلق بإدخال شعلة الروح في الحيوان النامي الهائج، مما يبطل الادعاء بأنَّ العلم عدو الروح. 

جورج وآرثر

 بناءً على المشاهدات ووفقاً للنزعة العنصرية يتم اختلاق جريمة وإلصاقها بجورج، والحكم عليه بالسجن سبعة أعوام، يقضي ثلاثة منها متأقلماً مع وضعه كسجين، حيث يستفيد من المكتبة المتاحة، ويشتغل على ذاته كإنسان. وبعد أن يختبر تجربة قاسية من منحى مسيحاني مسربل بالبوذية، ويتجاوز مأزق أقرانه السجناء الذين يصاب بعضهم بالجنون عند فقدان الأشياء العادية، يمنح إطلاق سراح مشروطاً.

 أما آرثر فتزداد شهرته، ويصبح شخصية عامة، ذات نفوذ واسع في عوالم تتجاوز سلطة الأدب والطب، ويمثل البرلمان بصفته نقابياً ليبرالياً في وسط أدنبره. كذلك يعيد إحياء شارلوك هولمز ويرسله في أثر أقدام كلب ضخم، ثم يتطوع كطبيب عند اندلاع حرب جنوب أفريقيا، لاعتقاده أنَّ هذه الحرب تستحق كذبة بيضاء أو اثنتين؛ كواجب وقدوة، لكن أيضاً لأسباب أنانية. فقد أصبح مدللاً ومقدراً، وبات بأمس الحاجة إلى شيء من تطهير الروح، وبعد أن عاش آمناً لفترة طويلة جداً، حتى وهنت عضلاته، أصبح يحتاج إلى استشعار الخطر.

نهاية البداية

 لم يستطع جورج التوقف عن التفكير كمحام، رافضاً التحيز العرقي. وبالتالي، لم يعزز السجن إيمانه، بل دمره، فتفرغت معاناته من المعنى، سواء له أو للآخرين كنوع من العبرة، وتحولت حياته الفوضوية والمبتورة ونصف المفهومة، إلى ما يشبه تقديم إفادة شاهد. لكن قضيته كشفت عن الوجه الآخر لإنكلترا، وأثبتت أنَّ العظمة البريطانية ليست مؤسسة عقلانية. حيث قدمت كل محطة أدين فيها جورج رسالة واضحة، تتطابق كلياً مع رسالة اللورد آنسون، كبير المفتشين للكاهن شاربوجي؛ “أنا ومن هم على شاكلتي ممن نملك الأرض هنا والشعب والعدالة”. وقد كررها أثناء حواره مع آرثر، في إدانة مباشرة للإنسان الهجين، الذي كان دوماً يواجه بالمقت في المجتمعات البشرية في كل مكان، لأنَّ روحه ممزقة بين الدافع للحضارة والجاذبية للبربرية. ثم لمح إلى الأساس الذي استند إليه في إلصاق التهمة بجورج، وهو الكبت الجنسي الذي يستلزم تفريغه طقوساً سرية للانتقام، تتمثل بتشويه الحيوانات. وبعدها تطرق إلى دور الإشباع الجنسي المنتظم في حياة الإنسان المتحضر، متجاهلاً قضية جاك السفاح، فنهضت القصص والروايات البوليسية كإشباع وهمي صامت لصخب الغريزة عند آرثر، نظراً لمرض زوجته، وبذلك ألحقه اللورد النبيل بالعرق الهجين، لكونه من أم إستكلندية وأب بريطاني.

نهايات

 أراد جورج أن يشتهر كمحام لكنه عرف كضحية لإخفاق العدالة، أما آرثر فعجز عن الاستقرار في العمل عقب وفاة زوجته لفترة من الزمن، حتى أتت قضية جورج إدالجي لتحول طاقاته إلى مسار غير متوقع أبداً، وتقدم بداية ملائمة فقط تسحبه من مستنقع اليأس؛ “ظهور رجل دين ملون مع ابن هجين في رعية جاهلة وبدائية لابد أنه تسبب في بعض الأوضاع المؤسفة” كما كتبت في مذكرات آرثر كونان دويل. أي إنَّ آرثر كان عازماً على الاستئثار بالثناء والفضل لنفسه، في الوقت الذي استحق فيه جورج الكثير من الثناء والتقدير.. لاحقاً عرف جورج أنَّ إعادة سرد الأحداث باستمرار يصقل حواف القصص، ويجعل المتحدث أكثر وعياً بذاته. ويمنح كل شيء مصداقية أكثر مما كانت عليه في ذلك الوقت.