عبق الأمكنة واستحداثها في أعمال سمير يوسف

ثقافة 2023/02/22
...

 زهير الجبوري 


تمتدُّ تجربة الفنان التشكيلي سمير يوسف إلى عقود من التواصل الفني في الساحة العراقيَّة، فهو ابن بيئة شرقيَّة تتعامل مع الأماكن بوصفها المشروع الأساس في تجربته ورؤاه، رغم تنوعه وانسراحه تجاه العديد من الموضوعات الفنية المتداولة، وقد شكّل حضوره منذ تخرجه من معهد الفنون الجميلة نهاية العقد الستيني، وانخراطه في السلك التربوي وتدريسه مادة التربية الفنية، فقد نشأ في مرحلة كانت فيها أسماء كبيرة وراكزة في الساحة التشكيليّة العراقيّة، غير أنّه نهج لنفسه أسلوبا خاصاً من خلال ملاحقة الموضوعات التي ترتبط بالأمكنة القديمة وملامحها الشعبيّة، كالشناشيل والقباب وفروع الأزقة الضيقة، كذلك الشخوص ـ المرأة ـ تحديداً، وما تتمتع به من ملامح الوجه ولبس الزي كالعباءة مثلاً، كل هذه العلامات ليست غريبة علينا نحن الذين سكنّا هذه الأمكنة وعشنا تفاصيلها وسلوكياتها، إلا أن وظيفة الفنان إظهار ما لم تنتبه له العين، أو بالأحرى ما أهمية هذه العلامات بالرغم من مألوفيتها اليوميَّة. 

أزعم أن سمير يوسف استطاع التقاطها وتوظيفها داخل اللوحة بالشكل المهاري الواضح، ومن هذه الالتقاطات أيضا (الشبابيك.. والطيور.. والزخرفة.. والأبواب.. والنقشات الموجودة على الجدران)، كلّها كانت مستخدمة لديه، وبأسلوبه الأدائي الخاص، وبطرق مختلفة في ذلك..

ومع كل ما قدمه من تجارب فنية تحت هذا الأطار الموضوعي، فقد كانت له استحداثات غاية الدقة، إذ استطاع أن يفتح بعض الثيمات في كل لوحة ليجعلها متفرّدة وحدها كمشروع تشكيلي خالص (لوحة فنيَّة وحدها)، فعندما نمسك بموضوعة معينة لنساء شرقيات مع أطفالهن في تجارب سابقة، الآن نشاهد ثمّة فرز لثيمة معينة كالأطفال، أو النساء لتصبح وحدة موضوعية لوحدها، وهي ميزة تنبه عن نضج ذهنيته وإدراكه لدقائق الّلوحة وللموضوعة التي يشتغل عليها. 

ومن خلال متابعتي له لأكثر من عقدين، أثارتني مسألة غاية الأهمية، أنَّ الفنان يُلاحق الأمكنة التي تثير الحدث، كتجربته الفنيّة في البناية التي أحرقت في ملحمة الكرادة قبل سنوات، كانت له تجربة متفرّدة في ذلك سميت بـ (ملحمة المكان الملتهب)، وقد تابعتها في كتابة خاصة حينها، فهو يربط الأحداث بالمكان، ويستنهض عبر رؤيته خيوط هذه الأحداث بدلالات جمالية خاصة به، وهنا يمكن الإمساك بتجربته بوصفها تجربة تتفاعل وتتحول مع ما يمكن استحداثه على أرض الواقع من متغيرات معاصرة.

الفنان سمير يوسف، واحد من الفنانين التشكيليين العراقيين الذين يقفون على ضوابط العمل على الأبعاد الجماليَّة للفن التشكيلي، لا تغريه ملامح التجريب بقدر ما تغريه مسألة الوصول إلى أبعد نقطة في موضوعاته التي يختارها ويطبقها في تجاربه الشخصية، أو تجاربه العامة التي يشارك فيها في معارض جماعيَّة.

من صميم تجربته، فإنّه يشتغل أيضا في الألوان المائيَّة، وله تجارب عديدة في ذلك، يمازج في رسوماته الأماكن المفتوحة، كالأزقة المطلّة على النهر، أو المشاحيف وهي تسير في منتصف النهر، ربما تُنظر للوهلة الأولى أنها مناظر طبيعيَّة، غير أنَّ الفنان لا يبتغي ذلك بقدر ما يأخذ على عاتقه ملامسة موضوعته الأم في المكان وشحناته التي يعيشها الفنان وكل من عشق هذه الأمكنة، فعلاقة الأماكن مع بعضها وباختلاف جغرافيتها تمثل التقاطات أساسية عنده.

كما تميّزت تجربته في التخطيطات، ففي كل معرض شخصي له سواء في الأعمال الزيتيَّة، أو المائيَّة، أو التي يرسمها في ألوان الأكرلك، يمازجها بتخطيطات بقلم الحبر الصيني، وتعد اللوحات التخطيطيَّة هذه، علامات مهمّة في طرح الأشكال وإبراز ملامح الفن العراقي المتمثل في مدن وسط وجنوب العراق، كما استثمرت في بعض الصحف والمجلات العراقيَّة والكتب الثقافيَّة، لأنَّها باختصار لوحات تقترب من تفاصيل الموضوعات الجماليَّة مع الموضوعات الثقافيَّة الأخرى.

وبعد معارض شخصية عديدة، فإنّ الفنان يستعد لإقامة معرض جديد يتناول خلال موضوعاته الجديدة، وفي حوار شخصي معه، تحدث عن استعداده لرسم لوحات في استحداثات تنمي عن طرح أشكال غير مألوفة سابقاً، لكنها لا تخرج عن المضمون الذي اشتغل في سنوات سابقة.