المسرح العراقي بين الإبعاد والإقصاء وتهالُك البُنى التحتيَّة

ثقافة 2023/02/22
...

 د. عواطف نعيم

كثيرة هي المهرجانات التي شهدتها المسارح والفضاءات في الأرض العراقية منذ العام 1985 الذي شهد أول مهرجان عربي كبير حين انطلق مهرجان بغداد للمسرح العربي وحتى يومنا هذا، وتنوعت هذه المهرجانات ما بين مهرجانات محلية محدودة ومهرجانات عربية وأخرى عالمية تفتح أحضانها للتجارب الحديثة والمغايرة في مختلف توجهاتها وآلية اشتغالها، وبالطبع يصاحب تلك المهرجانات ندوات فكرية وجلسات نقدية وتقويمية يخوض غمارها أساتذة ومختصون في البحث والتنظير مع أبو الفنون المسرح.

وكما تنوعت تلك المهرجانات في توجهاتها فقد تنوعت أيضا في طبيعة العاملين فيها ما بين محترفين ومختصين وما بين هواة وباحثين عن فرص لإنجاز تجاربهم وتقديم رؤاهم والإعلان عن مواهبهم. وفي أحيان كثيرة تجمع تلك المهرجانات أجيالا مختلفة يوحدهم هدف واحد هو الاشتغال على هذه الظاهرة العالمية التي اسمها المسرح، ومع تنوع تلك المهرجانات وتعددها ووجودها في أغلب المحافظات العراقية فضلا عن العاصمة العريقة بغداد بقيت البنى التحتيَّة التي تستقبلها من دون تغيير أو إعمار أو تأهيل بل حدث اندثار في البعض منها فتحولت إلى خرائب كما هو الحال مع مسرح بغداد وهدم بعضها الآخر كما حدث مع مسرح «الستين كرسي» لفرقة المسرح الشعبي ولفرقة مسرح اليوم أو تحولت الى مذاخر أدوية أو أماكن للتسوق، وبقي المسرح الوطني ومسرح الرشيد اللذان تم بناؤهما في ثمانينيات القرن المنصرم على حالهما، ثم وما بعد الاحتلال الامريكي للأرض العراقية تم إنشاء مسرح الرافدين رديفا للمسرح الوطني وهو ما زال يشكو الكثير من النواقص ومن ثم مسرح آشور وهو أيضا مسرح صغير يحتاج إلى الكثير من الترميم والإعمار ليصبح مسرحاً متكاملاً، ولكن وبشكل عام ليس ثمة صروح وفضاءات جديدة أستحدثت أو تم بناؤها أو قاعات تم تجديدها سواء في بغداد العاصمة أو محافظات العراق التي تعنى بالظاهرة المسرحية وتسعى لتكريس وجودها اجتماعيا، والمشكلة الأكبر هو عدم وجود التخطيط الحقيقي لتنظيم قيام تلك المهرجانات بل يتم الاعلان عن ذاك المهرجان أو تلك الفعالية تحت شعار (الفزعة) وحين تكون هناك فزعة فإنَّ الجهات التي تسعى لإنجاز مهرجانها  تلغي من قاموسها ما يلي: 

اللوائح التي تضمن حقوق الفنانين بتوفير ميزانية حقيقية لإقامة المهرجان أو إنجاز الفعالية الثقافية أو الفنية لتظهر بشكل معافى ومؤثر. 

التغاضي عن صيانة وتأهيل البنى التحتيَّة بكلِّ ما تحويه من مرافق وتفرّعات إبتداءً من فضاء المسرح وصالاته وقاعات التمارين والمكياج وغرف المممثلين والتواليتات وكواليس المسرح وورش النجارة وغرف الاكسسوارات ومخازن الملابس والملحقات، وحتى كراج السيارات.  عدم التخطيط لموسم مسرحي حقيقي وتكليف أسماء كبيرة لإنجاز أعمال مسرحية تليق بتمثيل المسرح العراقي سواء كانوا من جيل الرواد أو الشباب الفاعلين والمزكاة تجاربهم،  بل اعتماد المتوفر والسريع حتى لو كان نتاج مواسم سابقة وبعيدة بحجة عدم وجود ميزانيات للصرف.  

الاستفراد باتخاذ القرارات في الافكار والرؤى والتخطيط للندوات والجلسات النقدية واللجان التحكيمية والتكريم والاستضافة وتتم هذه الامور بحصرها بين عدد من مدراء الدائرة والمقربين من المدير العام والمتطلعين الى استغلال المهرجان لإقامة علاقات مع جهات عربيّة تعمل هي الأخرى في مواقع المسؤولية في مهرجانات عربيّة كي يبقى خط التواصل وتبادل السفرات

قائما.   

إقصاء واستبعاد كل من يتمتع باستقلالية القرار والفكر الحر في الرأي والعمل تحت ذريعة (تجديد الدماء وتزويد الجسد المسرحي بروح المغامرة والحداثة)، وكأنَّ المسرح لم يكن مجددا ومحدثا ومغامرا لدى كل من يعمل في فضائه.  

لا تشكل تلك المهرجانات حين قيامها تراكما حقيقيا للمسرح العراقي لأنّها في أغلب الأوقات تكتفي ومن خلال لجان المشاهدة التي تختارها وكما هو المعتاد من بعض المقرّبين بعروض عربيّة لأصدقاء وأصحاب، وما هو متوفر من عروض المواسم السابقة وعدد محدد من عروض المحافظات أن توفرت ثمّ تنطلق بمهرجان تدفع لمن ينظّر له ويطبّل لنجاحاته من المندلقين وتغض النظر في الدفع عمّن عمل واجتهد وأنجز من فنانين ونقاد وفنيين وتقنيين، وتبقى مجموعة في دائرة الضوء تضيء نفسها بما قدم العاملون المجهولون من جهد وتعب واجتهاد وصبر. 

أما وزارة الثقافة والسياحة والآثار فإنّها تبقى في أغلب الأحيان بعيدة عن حقيقة ما يدور مكتفية بحضور الافتتاح وقص شريط البدايات وإلقاء كلمة الختام وزجّ محاسبيها لمتابعة الأمور المالية الشحيحة التي توفرها مع عدم متابعة فعاليات المهرجان وجهوزيَّة البنى التحتيَّة وطبيعة التنظيم ومستوى المشاركة وتأثيرها، إنَّها وزارة لاتهتم بالمتن وتكتفي بالهامش وما ينقل لها على ألسنة القائمين على المهرجان والمستفيدين من إقامته. 

المسرح العراقي ومن خلال مسيرته الطويلة والغنيَّة قادر على تفعيل حراكه من خلال التعاون والتكاتف وتبادل الخبرات وعدم إقصاء الآخر والابتعاد عن الاستفراد والإزاحة والتحجيم  للمبدعين المختلفين في الرأي الأغنياء بالخبرة، كما أنه بحاجة حقيقيَّة إلى دعم الدولة وأولى خطوات الدعم تتجلى في الاهتمام والرعاية بالبنى التحتيَّة وتأهيلها وبناء صروح مسرحيَّة جديدة ليس في بغداد وحدها بل في محافظات العراق جميعا، والاهتمام بجيل الشباب المسرحي من الدارسين والهواة، ويبقى المسرح مدرسة للتنوير والتوعية 

والمتعة.