روايات في ذهن القارئ

ثقافة 2023/02/22
...

 ضحى عبدالرؤوف المل


تتضح أفكار الروائي أكثر وأكثر كلما زاد صراع شخصياته الروائية، فيشعر القارئ بأنّه اقترب من اكتشاف ما سعى إليه في استكمال الرواية أو القصة، بتفاعل يعتمد على البنية التواصليَّة وقدرتها على استفزاز الصراع الذهني بين القارئ والشخصيات في الأدب الروائي، الذي يلعب دوراً بتوقعات معينة يسجلها الذهن ويراهن عليها التحليل الشخصي للقارئ، المرتبط بقدرته على الانسجام مع الشخصيات أو التعارك معها ذهنياً، مما يجعله يحدد سلوكياته في الكثير من المواقف التي تتعارض أو تنسجم مع شخصيات ما بوعيٍّ هو استدراج للانخراط في علاقة خياليَّة خارج الجسد، وضمن أمكنة مختلفة يعيش فيها بعيداً عن عالمه الواقعي من دون مفارقة لواقع الرواية أو عالمها المتخيّل الذي تتحرّك فيه الشخصيات، ويتحرّك معها من خلال التناقض المطلق بين العالم الحقيقي والعالم الخيالي، وفق منطق العاطفة أو العقل وربما كلاهما معا. فيتمسّك عاطفيّا بشخصية من دون أخرى، وينفر من تلك وقد يصبح عدوانيّاً مع شخصية أخرى، ليصبح الكاتب الروائي هو المحفّز الفسيولوجي للقارئ من خلال شخصياته الروائيّة، وقدرتها على المحاكاة والتعاطف، وتحديد أفعالها التي قد تتغير وقد تعاند في ثبات أحادي لا تتغير معه رغم المشاحنات والمناقشات، والسلوك الحاد في إثبات الوجود كما في شخصية الملك آرثر أو روميو وجوليت أو شارلوك هولمز أو حتى هاملت والكثير من الشخصيات الأخرى في روايات حفرت وجودها في ذهن القارئ واستقرّت فيه. فهل يتعاطف القارئ مع الشخصيات الروائية أو يتعارك معها؟ أم أن القارئ يحتاج لصدمة من المؤلف للعثور على المزيد من الأفكار التي يبثها في عمله الأدبي؟.

يصاب القارئ بعدوى المؤلف الذي يعيش أيضا الصراع مع شخصياته إذ يتمسّك بالشخصية المتخفي بها، والتي يستطيع من خلالها بث العواطف المختلفة ناحيتها للآخرين، فيصبح الذهن عاصفا بكل ما يشعر به القارئ، ويؤمن به المؤلف من منظور النقطة القادرة على غثارة زوبعة ذهنية هي بمثابة إعادة تشكيل لأوليات الأحداث الروائيَّة من وجهات نظر مختلفة. فيستردها من خلال ردَّات فعل القرّاء والنقّاد كما في مدام بوفاري التي تعيش معنا حتى الآن، فنتصارع معها عندما نقارنها مع ردَّات فعل لقصّة ما عايشناها واقعا أو متخيلا عبر شخصية أخرى في رواية أخرى. فنبدأ بالربط أو فك التشابك بينها وبين أخريات. فهل يمكن وضع الذات في شخصية روائية يعيش فيها القارئ متقمّصاً الأحداث الحياتيّة فيراها من منظار الكاتب؟ أم أن فهم العواطف والمعتقدات والأفكار يحتاج لإيثار خلال مرحلة قراءة نفهم من خلالها ما يشعر به الآخرون في محيط اجتماعي نعيش فيه؟ وهل يمكن أن يتغير ذوق القارئ مع الشخصيات التي ينفر منها أو يتعلق بها؟.

يشارك القارئ في بلورة النقاط المتعددة في مؤلفات تمسك بشخصياتها سلباً أو ايجاباً، وبمواجهة ذهنيّة فعلياً تنطوي على الكثير من المواقف التي يتخذها الكاتب، لتثري المستوى الفكري أو النفسي أو حتى العاطفي والعدواني، وضمن المجال التخيلي للواقع الذي يفرضه في مساحة الرواية. بل ويتخطاها الى عوالم أخرى ينتقل معها القارئ ليحقق فعليا معرفة مختلفة في جميع المجالات تبعاً للقراءات التي يختارها أو للعناوين التي تجذبه ويتعامل معها من خلال تجديد رؤيته للعالم الفعلي من خلال ذلك. فالعالم الخاص بالكاتب يثري القارئ ويمنحه انفعالات تجعله يواجه ذاته، ويستخرج منها ردَّات فعله من خلال المواقف التي يتخذها، ويكتسب منها ما يسهم في بناء المعنى التخيّلي الذي يؤثر فعليا في ردَّات فعل القارئ. فهل الرواية الملهمة التي يتمسّك بها القارئ تجسد قوة عظمى وتُظهر قيمة دور الكاتب في المجتمع؟.