إياد الحسيني.. اللون والحرف وتقمُّصات الروح

ثقافة 2023/02/23
...

 إسماعيل نوري الربيعي

 

إنَّها الروح التي تهفو نحو أوغاريت، حيث موطن الأبجديّة الأول. روح تسعى نحو مشاغبة المشاعر، مستحثة الجمال والفرادة، والأفق المتسع. كرم وجزالة، وغور عميق في (حرف) يختصر هذا الكون الهائل الفسيح. إياد الحسيني كائن تفشّت في عروقه الحروف والألوان، فيما ذوت لديه كريات الدم الحمراء والبيضاء.  يصغي بكل ما فيه لعبارة ابن عبيدة، وهو يقول؛ (القلم أصم، ولكنّه يُسمع النجوى، وأبكم، ولكنه يفصح عن الفحوى). من دون تكلف تراه يرفع ابهام كفه الأيمن نحو طرف شحمة أذنه، من دون أن يلامسها، راغبا بالمزيد من الإنصات لهذا الأصم الذي لا ينفك يبث النحوي ويمور بالفحوى. قلم يسطّر وروح ما تزال تتجلى في تحرياتها عن المنابع والأصول والجذور. اتصال حميم لا يعرف القطيعة، كأنَّه القلم الذي ما يزال يستنطق الإقبال والاقتراب والاتصال والاجتماع، والارتباط والتقارب، والتماثل والتواصل بسعي حثيث وخطو خفيف وتقرب وشيك نحو المحبة الغامرة، والعاطفة السخينة الفائرة والمشاعر الشجية الدافئة. إياد الحسيني تشكيلي يصوغ في دائرة الرمز، ورمزي متورط حدّ الثمالة في التشكيل. يعفّ عن المظهر لينخرط في صلب الجوهر. غايته المعرفة وأداته التفكير العميق، وسيلته الأصل تقوم على السعي الحثيث في صلب أصل الكتابة. وهكذا تترى الأسئلة التي لا تعرف الانقطاع، في مخيلته المتوقدة. حتى تراه يتوجه بإطلاق أسئلته الجريئة لـــ ابن البواب، حول الريحان والموقع، والنسخ والمسلسل، والجليل والتواقع، والمنثور والمعتاد، والثالث والرقاع، بوصفها القواعد الرئيسة لخط الثلث. دارس عميق هذا الحسيني المؤيد الإياد، يتفرّس بكل بصره وبصيرته في خطوط الديواني والفارسي، والرقعي، والثلث، والكوفي. ليجول في المدارس والأساليب والطرق والمذاهب والأنماط، بطواف الموجد، وسياحة المخترع، وتجوّل المبدع الخلّاق الحصيف. موقن بإدراك لا يساوره الشك بعبقريَّة هذا الخط الموسوم بالعربي. لا يتردد لحظة عن نزع نعليه. ليجوس بتؤدة راهب بوذيّ في حقول الكتابة، يتأمل الفينيقي منها، والآرامي والنبطي، واضعا سبابته على معالم الجمال في خطوط الكتابة العربية، مستغرقا في ملاحتها وبهائها، وحسنها وروعتها. متقصيا رونقها وبهاءها، حاويا بهجتها، شاملا سحرها وفتنتها، مستوعبا قسامتها ونضرتها. إياد الحسيني لا يتردد عن عقد حوار مع الخط الكوفي، ومسامرة الثلث، ومكايدة الخط الرقعي، والدخول العميق في مفاوضات طويلة لاتعرف الانقطاع مع الخط الفارسي، ليتجلى منتشيا مع الديواني. ليعود كرّة أخرى ليخوض في التكالم والتفاوض والتحادث والتحاور مع الحروف. تأخذه بعيداً لتسرح به عند شواطئ لا عين رأت ولا أذن سمعت. فيما لا يتوانى عن الإمساك بقياد الحروف طرّا. ساعيا بها في طقوس قداسة الجمال والأبهة والرفعة والسموّ، محلّقاً في فضاء من النضارة والنعمة والميعة، حيث الروعة والألق. وهكذا هو الحسيني موقنٌ بقيمة الحرف العربي، منقطع للتأمل فيه، معتقد بدلالته، مصدق بجوهره، مخلص لتمثيلاته في الخير والحق والطمأنينة والدعة والسلام والمحبة، والسكون والصلح، والسكينة والخلود. إياد يتعاطى برسوخ مع الحرف بوصفه رسالة تغشى القلوب وتسر البصر. إنّه المبدأ والباعث والمستهل والمفتتح والمقدمة التي يتعاطى بها مع العالم. صور الحروف تتلاشى لدى هذا المبتكر الحاذق الحصيف، فيما تتمايز الرموز بكثافة لتمارس حضورها بنفوذ طاغ، وفاعلية آسرة وسلطة مؤثرة وسطوة فاعلة. إنّها اللمسة الخاصة التي يتفرّد بها هذا الحروفي العميق. حيث الاستحداث والإنشاء والتكوين في صلب الأبجديات والحروف. إنّه الكشف الذي لا يتوانى عن استمطار المعاني عبر إدراك واستيعاب التنوع الذي يزخر به العالم.تتزاحم اللحظات بلهاثٍ عجيب، فيما تنقض الأسئلة فاردة قلوعها، في بحر متلاطم الأمواج. نقوش وكتابات. وخطوط تنساب في صميم لوحة القماش. ليكون السؤال الأشد حضورا حول السر الكامن في هذا الحرف بتربيعه وتدويره؟ الذي غدا مقدمة للوجدان، ومدخلا لقراءة النوايا، وفاتحة للتمعن في النجوى، وديباجة لتأمل الفكرة. وتوطئة لتحسس الطوية، وتقديما فارها لمناجاة الضمير، وتصديرا لقراءة السريرة. وبداية للولوج في طوايا الذمة. حرف ما انفكَّ يسعى في داخل المعنى، حيث الرغبة العارمة المتطلعة نحو الكشف. وهذا هو بيت القصيد. حيث الجميع قادر على رسم الحرف والتفنن في تقديمه. فيما الحروف لدى إياد الحسيني لا تفتأ متحررة من إسار حدود اللوحة، حتى تراها تحلّق بعيدا، كأنّها فراشات آثرت أن تسيح في ملكوت الضوء. وهكذا هو الحسيني ينتزع الحرف من روحه، ليضع قبس المعنى بأناة الحكيم وتأمل الفيلسوف وشغف اللساني وتقمصات الباحث. ليعمد نحو إبداع  ملحمة تحاكي عوالم تخصيب الخيال، من دون تهويل أو مبالغة. لوحة ايقاعها الداخلي لا يفتأ يهز المشاهد، ويفعل به الأفاعيل من دون جلبة أو جلجلة أو عجيج. حروف تضج بالصوت الصداح، النائي بنفسه عن الصراخ والصياح والضجيج. مساحة فارهة ينشئها الحسيني، واضعا إيَّاها أمام  فؤاد وروح المتلقي. فهو مؤمن باستفتاء النفس. ناءٍ بنفسه عن الهتاف والهرج واللغط. راغب بكل ما فيه لتنقية اللون من الفوضى والاضطراب والضوضاء والعجيج. وقورة حروف إياد الحسيني، كيف لا؟ وهي المتطلعة لمخاطبة الروح. متقن لونه، دقيق خطابه، وثيقة خطوطه بثراء الممتليء. إياد الحسيني فنان تشكيلي آثر التعاطي في حقل بلاغة اللون وفصاحة الحرف. فكانت التجلية البارعة، وهذا بيت القصيد.