عالم بيكيت ودلالاته الإنسانيَّة

ثقافة 2023/02/23
...

 سلام التميمي

تحدد سنة 1935 الانعطاف الكبير في حياة صمويل بيكيت الفنية، التي تبلورت في نتاجه المسرحي، إذ فيها غمرت (بانتظار غودو) أعماله القصصيّة بأنوارها الساطعة، بتنحيتها عن الوجود نهائياً وتجاوزها إلى رحاب مسرحياته الأخرى كـ (نهاية اللعبة) و (الساقطون جميعاً) و (شريط كراب الأخير) و (الأيام السعيدة)، وإذا كان لمثل هذه المسرحية آثار مدوية في معظم المسرح – الطليعي واللامعقول – في فرنسا وعبر القنال في انكلترا، ومن هناك في الامريكيتين، فإن مرد ذلك كله يعود إلى قدرة هذه المسرحية المتحللة من المواضعات الدرامية على عرض الوضع الإنساني، في منظوره الميتافيزيقي بكل ظروفه وملابساته.

فماذا يعني هذا الوضع على التحديد؟ ولماذا برزه بيكيت بهذه الحدة والصراحة والقتامة؟ وكيف تصور المسرحية الوضع البشري الراهن  من أوجهه المختلفة؟، وما هو مدى الصدق في هذا التصوير؟، وماهي دلالاته وسماته؟.

إنَّ ماهية الوضع الإنساني، في واقعه المشخّص العياني ووجوده المحض، لا تمتاز، على رأي بيكيت، امتيازها بعنصر الفراغ الذي يلازم القلق والاستسلام والعزلة، الفراغ وجود ماثل لأنّه في أساس الكون كله بما فيه العالم والمجتمع نفسه، لأنَّ الوجود الإنساني بمعناه الأنطولوجي عديم الهدف دائري المسار، مفقود القيم، هلامي التكوين، عبثي المضمون، ذلك أنّ الإنسان الظاهرة الغريبة في هذا الكون الغريب، كيان وجِد بالمصادفة العمياء، وَقُذِف به إلى العالم بالمصادفة ذاتها، فوَجد نفسه في سديم فراغ رهيب ليس له يد في الانتساب إليه، ولا لهذا الفراغ يد في بعث الحياة فيه، ذلك أن الأحداث المفروض حدوثها تاريخياً لم تحدث، والأمور المظنون أنها جرت لم تجرِ، كل ما هنالك بالمعنى الدقيق من الكلمة سكون، ثبات، شلل تام، عبث منطوٍ على نفسه، ضياع وتيه في بيداء بباب: فراغ يتخلل في كل شيء. ومن ثمَّ فإن الإنسان معزول عن نظام الأشياء، وطبيعة الوجود، لأن الأشياء بثباتها وحدها يمكن أن توجد وجوداً عيانياً، ذلك أن التوتر الذي يلازم الوجود الإنساني، على افتراض واقعية هذا الوجود، يجعله في منأى من استمرارية الأشياء وديمومتها، ومن سيولتها وصيرورتها وتطورها، ومن مجمل العملية التاريخية المرفوضة أصلاً، ومن هذا التوتر ينبثق الترقب والقلق والانتظار، ذلك أن الإنسان الحي ظاهرة زائفة، لأن الحياة في وجودها السكوني زيف مُفتعل، تخاذل مستمر أزاء قوى الطبيعة والمجتمع الحيواني، أنه يجد نفسه عفواً ويفقدها عفواً من غير إرادة تحركهُ أو طموح يستفزهُ أو فعالية تستثيره أو هدف يستحثه على العمل.

إنسان بيكيت لا يعترف بالتاريخ وجوداً عيانياً ماضياً، ولذلك نجد استراغون يرفض مثل هذا التاريخ رفضاً قاطعاً بقوله: (لا أحداث، ليس هناك من جاء، ولا من ذهب، إنه شيء فظيع) وهذه الفظاعة بمعناها الدقيق هي ماهية الإنسان في مسرحية (بانتظار غودو) إنها المضمون النفسي الشامل لكل الوجود الإنساني، ذلك أن انتظار مجيء غودو هو نفسه انتظار غير مبرر، لأنه لم ينته إلى موعد محقق، مع شخص معين، مما يدفع إلى الشك في الموعد والشخص الموعود معاً، ومهما يكن من تفسير لهذا الانتظار في تفاهة الألعاب الصبيانيّة التي يمارسها البطلان في تداخل شخصيتهما بصورة رتيبة غريبة تافهة، بحيث يمكن لأحداهما أن تتقمّص الأخرى بكل سهولة، ومصداق ذلك التداخل أن استراغون يتحدث فيكمل فلاديمير حديثه، كأنهما وصلتا شريط متسلسل، ينطق أحدهما الجملة فيعيدها الآخر بالرتابة ذاتها، بالأسلوب نفسه، واللهجة عينها، فإذا كانت ثمة إضافة فإضافة تكميليّة لا غير، ومن هنا وجدنا تداخل الشخصيتين مثلاً في كل حركة على نحو مرعب، إلى حد يمكن أن نضع استراغون في جلد فلاديمير وأن نفعل الضد من ذلك، من غير أن نشعر بالفرق بين الشخصيتين على الاطلاق، وإذا أمعنا النظر في هذا التداخل من وجهة نظر بيكيت يمكننا أن نتوصل إلى بعض النتائج المترتبة على ذلك، في الوضع البشري بأسره، أن بيكيت، من خلال هذا التداخل يصور الشخصية الإنسانية تصويراً درامياً مأساوياً حاداً بكل صرامة وفظاظة، إنه يغلق عليها كل منافذ التغيير والانفتاح، فلا يعود أي كائن إنساني إلا نسخة طبق الأصل عن أي كائن إنساني آخر، ومن ثم يصبح الطابع السكوني المحدد تحديداً السمة البارزة للإنسان في وضعه الوجودي بتجريده كلياً من مواصفات الحركة والتبدل والتغير، إنه الإنسان الهامد، الذي لا يمكن أن يتخلى عن هويته السكونيّة، فهو ما كان عليه وما هو عليه وما سيكونه في عالمه الميتافيزيقي المطلق، ومن هنا فمجيء غودو وعدم مجيئه وحتى شخصية غودو نفسها لا تعني شيئاً في مسار المسرحية، إنما الشيء المهم الذي يسري في المسرحية هو الانتظار، مطلق الانتظار، انتظار من؟ ولماذا؟ وكيف؟ أسئلة لا يستطيع أي من البطلين حتى مجرد التفكير فيها، لأنّها بعيدة كل البعد عن مضمون المسرحية وتطورها وسياقها، ومع ذلك فإن المسرحية استطاعت أن تشدنا شداً متوتراً بقلق الانتظار، وقد حالفها النجاح في ذلك إلى أقصى حد، مما يدل على أن الغرض الرئيس من الفعل المسرحي لدى بيكيت هو هذا الانتظار الذي لم يتحقق فنياً ومسرحياً في نفوسنا حسب بل في نفوس الابطال المسهمين في المسرحية، وهذا الأمر ماثل في أقوال استراغون وفلاديمير المترادفة: (لنذهب، لا نقدر، لماذا؟ لأننا في انتظار غودو)، غير أن الانتظار على الرغم من التوتر الموجود في اهابة حالة سكونية جافة تشمل الحياة كلها وهذا ما يمثله صراخ بوزو: (لا أبدو قادراً على الحركة)، وجواب استراغون: (هذه هي الحياة)، وصرخة بوزو في وجه فلاديمير: (ألا يكفيك ما عذبتني به من زمنك الملعون؟ هذا اليوم هو كأي يوم آخر، ذات يوم أصبت بالعمى، وذات يوم سنصاب بالصمم، وذات يوم ولدنا، وذات يوم سنموت. اليوم هو هو والثانية هي هي)، وطبيعي أن تنسحب هذه السكونية البائسة على قيمة الإنسان فتضيع هباء في سديم العدم بصورة مؤسسيه يرثى لها، يبرز بيكيت قسماتها بأسلوب حدي مؤثر بارع، وهذا ما يؤكده فلاديمير بقوله: (إنّ كل شيء ميت عدا الشجرة)، ولكن استراغون لا يجد الحياة حتى في الشجرة، فحين يطالبه فلاديمير بالنظر إلى الشجرة ينذهل من ذلك الطلب، فيرد عليه: (لا أرى شيئاً) وبما أن الانتظار لا يحتمل معناه المألوف فهو لا يعني أي ضرب من ضروب الصراع، ومن ثم، فإنّ انتفاء الصراع هو تتمة طبيعية لوجود الإنسان السكوني، من حيث ثبات وجوده وماهيته معاً.

وانتفاء الصراع يستتبعه اليأس الأسود الذي ينضح في دموع العالم التي لا تزيد ولا تنقص، في العواء الذي ينفجر على لسان البطلين، على هذه الشاكلة: (استراغون: لا شيء تستطيع فعله)، (فلاديمير: لا جدوى من الصراع)، (استراغون: لا فائدة من التمرغ)، (فلاديمير: الشيء الأساس لا يتغير). واليأس هو مقدمة الموت، هو دليله ومرشده، هو منزلقه إلى هاويته بكل ما يعنيه الموت من عدم وفراغ، ها هو ذا بوزو يحدثنا عن هذا الضيف الثقيل، اللص الليلي، الذي يعرف جيد المعرفة الهزيع الملائم له، فيقول: (وراء ستار اللطف والسلام يهجم الليل فيباغتنا.. في الوقت الذي لا نكاد نتوقعه.. هذا ما هو جارٍ على ظهر الدنيا الكلبة هذه)، وإذا كان الموت هو الظل الذي لا يفارق الإنسان في حياته، فمن المعقول ألا تكون الحياة نفسها غير شلل تام يقعد بالإنسان عن كل حركة، ومن هنا تكون الحياة هموداً منطوياً على ذاته، ومن ثم يندمج الموت في الحياة في وحدة العدم المطلق.

وهذا الشلل يبدو على أشده في قول استراغون: (في الوقت نفسه ليس من شيء يحدث) جواباً على ملاحظة بوزو: (أنت ترى أن ذاكرتي ضعيفة)، وقوله: (ولا في أي مكان آخر) ردَّاً على كلام فلاديمير: (ليس لنا من عمل نقوم به هنا).. هكذا وبكل بساطة يُمَكِن بيكيت أبطاله من إطفاء جذوة الحياة بقطع مسارب الحياة

إليها.