الأهوار تجف

ثقافة 2023/02/25
...

 ياسين طه حافظ 


الحصاد قبل موعده. ومبكِّراً ينقلون الأعلاف للشتاء. 

يعبر الضحى وهم منشغلون بإصلاح الشِباك التي اتلف الماء 

«لتكن لنا شباك لصيد سيأتي»، يقولون وحشرجةٌ آخرَ الكلام.


يأملون بموسم ويخشون أمراً فيه. 

الغيوم فارغة الوفاض تمر. والمشاحيف ساكنة في الجوار، 

تتدلى من جلودها حراشف سود، المشاحيف منزوعة القرار.


موسمٌ شائخ يسعل بين القصب. 

الرؤوس شُعْثٌ وأتلف الجذورَ العفن. درسٌ آخر في الردع.  

مثلما البُسطُ الصوف تنطوي هنا الحياة. 

لم أرَ طيوراً تهبط ولا طيوراً تطير. درسٌ آخرٌ في الحكمة القاتلة. 


أي مآل لذلك الغامض اللمعان؟ 

هو الأكثر عمقاً مما يقول المقياس ويُخطئ فيه الصائد القديم. 

انظر منكسراً. نقيعة مكسوّة بالتاريخ وتعاودها،

مثلما تبحث عما فقدته، البروق.


صباح آخر ويبدأ انتظار واهن لما نصطاد. 

ليس غير خشونة في الهواء وصمغ مرّ يجف على اللهاة.

وهم الناس منذ لا اعرف من القرون، صمتوا والتوابيت 

واحداً بعد آخر تغادر. مصائر تخلّف احزانَها لمصائر. 


كُفَّ ذكراك. لا زهور تتفتح كلها مرة واحدة، ولا سمك 

يطفح عافيةً، يقفز توقاً للخلاص ويهبط كأن نال ما يريد. 

وأفاعٍ تجد فرصة، تُطلِعُ رؤوسَها تتأكد من بقاء العالم. 


كُفَّ ذكراك. آخر الطفولة أول الصبا، يجّاوزون الخياض 

الى السباحة الاولى يحاولون التقاف وردةٍ طافية، 

تبتعد عنهم وتغيب، 

سيرونها وهم شيوخ.


مثقَلَةٌ بالأزمنة بقايا الماء. كم أضاعت في أسفارها الحياة، 

غناء بعيد يشبه العويل. 

هو هذا الحصاد الأخير. هو آخر ما ابقوا لأسرى الجوع. 

من يستطيع أن يوقف القرار؟ 

هو ليس الذي يصير لنا مرايا. وحين لا وصلَ، 

نطلقُ من قلوبنا الغناء. نبكي حبيباً لا نراه وجميلاً نأى..


يا لهذه الجمرة تتقد إذا مر خاطرٌ، 

إذا حضرت دون موعدٍ ذكرى. 


على الضخضاخ زحفت مشاحيف. تزحف زحفاً وهي فارغة.

الاذرع تعمل،

المجاذيف عاطلة

لماذا يا آلهات الماء! هذه سمكات صغيرات باقية في الوشل،

تجهل ما يجري. هذه البردية الانيقة، 

انحنى قوام الاميرة، ستموت هكذا، صَبْوةٌ ولا سماء! 


لماذا جئتُ الآن، أنا الهارب سنين من الموت والملح؟ 

أي الاقدار اختارتني لأشهد موت الآلهة وعبث الاقدار 

بالحدائق المائية وبمسابح النجوم؟ 

أذكرُ مشحوفاً يحملُ ظلين، انزلق في العتمة 

كي لا يصطاده بصر. زمن الحب انتهى.

وغابت الزنابق البيضاء – لَزِجٌ أسودٌ هذا الماء..


من هنا، من ظلام الكثافة، من غابة الموت والقصب، 

تخرج من ليلها وردة الأزمنة،  

وردة القصب، 

ناعمة ضئيلة مثلَ سرّ

تنثر في الريح والماء بركات الإله،

يعرفها ويعرف سرها حكماء القرون.


فعمَّ تبحث أنت في فراغٍ وكونِ هوام؟ 

غاب الزائرون وودعوا الضيوف والموتى. 

مخيفة هذه الوحشة، 

تلك هناك بقعة تلمع! 

بقعةٌ من كونٍ زال (شجرةٌ في مكان اسقطت كل أوراقها).

خضَّ كلَّ دمي الفزع، تلك بقعة لامعة! 

في الهور تصدح الفكرة مثل قبّرة! 


«قل ما شئت، « يندهني الهور،» أنا لا أقول ولا اتحدث

عن نفسي. سأغيب وما عرفني أحد. جئتُ عالمكم فرِحاً 

ولكنني، اسفاً، في زمانكم أغيب. 

حرّروا انفسكم قبل ان يكتمل الاختناق! 

ليس لي غير هذا الخطاب.. “ 

لا صوت للهور بعد.

حقيقة الموت مقفلة وحقيقة الحب تُفجِّر دمعاً ودمعاً يسيل.

ماذا تقول الاحراش للطين والطين يسودّ أكثر في كل يوم 

ونحن نرى؟

المشاحيف عاطلة.

رجالٌ بثياب قديمة ونساء ملفعّات عباءاتهن الصوف ملفوفة 

على الخصور. وأولاد بمناجل يقفون على الحافات الزرق

حيث الزمن يذبل ويموت. 

جملة واحدة من حديد بعدها الصمت ينذر بالموت:


 «نريد من العالم وردةَ القصب!}


أربعة مشاحيف وطرادة واحدة اكتافها للجرف

مثل رتل مهزوم. صامتة، ربما بينها حوار. يتشابه الخاسرون. 

لماذا جئتُ وأنا غائب من سنين؟ 


مثل أحزاننا حزن هذا الماء، مثلنا الذكرى مقلوبة على وجهها.

حولنا الان منارات نفط تحمل نيرانها في العراء. 

تنفث بوجه السماء كراهات، وحيث نكون بنادق.

وفي الهور قش برؤوس سود ثقَّبه النومُ في عتمة فاسدة.

وفي عتمة فاسدة شاعرٌ يموت. 


ترى، تتذكر، تنسى. الأحداث ليست في تسلسلها 

ولا منطق حينما تفسد الكلمات. 

لكَ، يا أنا، أن تتعلم وتنسى. لك أن تتوقف عند لافتة: 


إننا، كل ما حولنا، ملك هذا الغموض. 

لماذا تغيب عوالم وقفت بوجه شموس وأعاصير؟ 

لماذا جئت وأنا غائب من سنين؟ 


استدرتُ لأمضي، ثم استدرتُ لأبقى. المحنة مُربِكة. 

تلكم النخلات البعيدة ساكنة، وحدها في العراء 

صابرة تعرف المصير.


آخر الخطوات. خشخشةٌ تحت قدمي – ما تزال هناك، تلك هي 

البقعة اللامعة.

لا تدري ما تفعل وما حولها اختفى. 

كم ستظل تحمل اللمعان الاخير؟ 


على صفحتها الرمادية الساكنة، وقفت 

        ثلاث إوزات 

       يحدقن بالكارثة.

من يستطيع جواباً؟ لا طرادة بعد تأتي، 

جئتُ في الزمان الخطأ. أعود تاركاً ورائي 

ثلاث إوزات، 

ثلاث علامات أسئلة..