سقراط في الألفيَّة الثالثة

ثقافة 2023/02/25
...

 كه يلان محمد


تخيل أنَّ الفيلسوف اليوناني سقراط 399 ق.م يعودُ من جديد إلى مسرح الحياة عابراً الأزمنة الغابرة والعصور السحيقة ويستأنفُ نشاطه المعرفي في الألفية الثالثة، بالتأكيد تتسعُ حلقات نقاشه لكثير من التحديات المطبوعة بطابع العصر. قد يناقشُ مع حواريه الجدد الثورات العلمية من دون أن يستغرب من الدمار الناشب عن الحروب التي زادها العلمُ توحشاً وفتكاً ويبتسمُ مما يتنامى إلى مسمعه عن الذعر الذي أخذ بتلابيب الإنسان جراء تفشي العدوى اللامرئية معلقاً بقوله ألم أقل لك أيها الإنسان بأنَّ الغرور هو تستر على ما تجهله وليس لك به علمُ؟ مع أنَّ فيلسوف أثينا عرف عنه التواضع والمرونة حتى مع من ناصبه الخصومة لكن من الظواهر التي تؤرقه عندما يمشي في شوارع المدن هي الزحمة والاختناق قائلاً: لا عجب من ضيق أفق تفكيركم لم تعدْ هناك مساحة للتجول تماهيتم مع الأجسام الحديدية وبالتالي رأسكم يشبه تماما المعادن كلما رأى الأشياء المتراكمة في المحلات وعلى قارعة الطرق يلتفتُ إلى مرافقه مُتسائلاً كيف تعيشون حياتكم في دوامة الاحتياجات اللامتناهية؟ هل خلت أيام البشر من هدف سوى المجد الاستهلاكي أه صديقي كم من حاجة لسنا بحاجة إليها؟ وحين يستفسرُ عن سبب غياب النقاشات الفلسفية في الميادين والشوارع يتفاجأُ بمن يرد عليه بأنَّ الفلسفة تُدَرسُ بالجامعات وأصبحت شأناً نخبوياً وهي ضمن الاختصاصات المعينة. وهو يعقبُ على كلام قرينه متسائلاً هل أفهم مما أسمعه منك بأنَّ التفكير لم يعد نشاطاً يومياً للإنسان؟ كأن صندوق رأسكم ختم بالأحمر! ومن جانبه يستوضحُه المرافقُ ماذا تقصد بالشق الأخير من كلامك يا سيد سقراط؟ يا صديقي أن الحياةَ التي لا يتم فحصها ونقدها هي حياة لا تستحق العيش قد حلت شراهة الاستهلاك مكان فضيلة التفكير لدى أبناء جيلك وأظن كثيراً من الظن أنَّ ما أصطلح عليه بأصحاب الاختصاص الفلسفي أو غير الفلسفي لا يفهمون من أمر اختصاصهم شيئاً يُذكرُ قد شغلتهم القشور عن الجوهر وراقت لهم الفذلكة اللغوية ورص المراجع والمصادر المجلدة في المكتبات التي تظهر في صورهم. وهذا يعني أنَّ تأمل الحياة وإعادة النظر في الأولويات وترتيب الأوراق على طاولة التفكير كل ذلك ليس جزءاً من البرنامج الحياتي. لذلك نشب المللُ مخالبه في أيامكم، والمعاناة الكبيرة للعصر هي الوفرة في كل شيء مقابل ندرة في الحكمة. وأنا أتملى الأشياء المعروضة أرى بينها تكديساً للكتب. يسأله المرافق ألا تعجبك الكتب المكدسة؟ أبداً هي ليست دليلاً على الصحة في التفكير والتعمق في المعرفة. آه نعم هذا ذكرني بكلام نيتشه وهو يقول: إنَّ الحكمة تضعُ حدودا حتى للمعرفة. صحيح من هو نيتشه؟ يلوح لي بأنَّه خارق في نظرته. هل هو على قيد الحياة؟ هل يمكننا أن نلتقي به؟ ما بك سيد سقراط يبدو أنك تأثرت بفحوى المقتبس النيشتوي؟ نعم يروق لي أنْ أعرف عنه أكثر ما قاله صاحبك أبلغ مما يُروى عن شيشرون «الحكمة نفسها أحياناً تدعو الحكيم أن يتركها». يبتسمُ مرافقه مخبراً إياه بأنَّ نيتشه قد كال له تهمة إفساد العقل الفلسفي. ندت من سقراط ضحكةُ قائلاً نتعلمُ الحكمة ممِّن يخالفنا. نعم لكن حتى لا أحيد عن الإنصاف فقد أبدى نيتشه أعجاباً كبيراً بشجاعتك وحكمتك في كتابه «العلم المرح» هذا عنوان لمؤلفه!؟ نعم عنده مؤلفات عديدة. هذا العنوان مثير للاهتمام وأكثر ما أعجبني فيه المرح الذي يوحي بالخفة والفرح. تماماً سيد سقراط فكان نيتشه تعجبه خفة الراقص في التفكير والعيش. والآن اكتشفتُ بأنَّه يشاركك هواية المشي. فبرأيه أن الأفكار التي لا تأتيك أثناء المشي ليست جديرةً بالاهتمام مؤمناً بأنَّ إعمال الجسد وحركته من شروط التفكير الحر. وهذا لم يمنعه من مهاجمتي! صحيح هو مشاكس بطبعه قد يوافقك لمدة لكن سرعان ما ينقلب عليك. إذ عبر عن إعجاب كبير بأستاذه آرثر شوبنهاور ونشر كتاباً مستلهما فيه أفكار فيلسوفه الأثير غير أنَّه ما لبث طويلا حتى ضرب به عرض الحائط. يبدو أن فيلسوفكم نيتشه قد أراد الانخراط في أهوال الحياة بروحية قتالية. ماذا أعجبه في أفكار شوبنهاور؟ فقد تعرف عليه صدفة في يفاعته ربما انجذب إلى تبصره لتحديات الحياة كان صاحب «العالم إرادة وتمثلا» حكيماً. فقد رأى بأن الحياة تتأرجح بين الرغبة والملل. لذلك قد نصح بضرورة الاهتمام بالجوهر ومن الحماقة بنظر شوبنهاور أن يربح الإنسان ما هو في الخارج على حساب ما تقومُ عليه كينونته. صديقي فقد لاحظت أمارات الإعجاب على محياك وأنت تسترسل في الحديث عن نيتشه. هل أفهم مما لمحته أنك تابعت التلميذ العاق ونسيت الأُستاذ؟ كان نيتشه يؤمنُ بأنَّ التلميذ لا يكافئ أستاذه إذا اختار أن يكون تابعاً طوال حياته. فحتى تلميذك النجيب أفلاطون قد خالفك يا سيدي عندما أنشأ الأكاديمية وسحبَ مائدة الفلسفة من الشارع إلى قلعته المنيعة. 

ولا أعتقد بأنَّ اشتقاقه لطريقة جديدة في التفلسف إساءةُ إلى المذهب السقراطي. طبعاً ما قام به صاحب الجمهورية ليس إلا مبادرة معرفية وفتحاً مبيناً على المستوى العقلي. مع أنَّي لا أُحبذ أنْ أتفلسفَ إلا في الهواء الطلق والأمكنة العامة على أية حال فإنَّ المبحث الفلسفي يفقدُ الحيويةَ وتستنفدُ طاقاته إذا تحول إلى مجرد اجترارٍ للأقوال والآراء التي ذهب إليها أهلُ السلفِ. يوافقك في ذلك الرأي سارتر الذي يعتقدُ بأنَّ هناك من الفلسفات بقدر ما هناك من الفلاسفة. ولكن ما تعليقك سيد سقراط على قول ألفرد نورث بأنَّ تاريخ الفلسفة ليس إلا سلسلةً من الهوامش على أفلاطون؟ أنا يعجبني أكثر رأي صاحبك سارتر وذلك ليس لوجود التشابه الاسمي بيني وبينه، بل لأنَّ صناعة الفكر هي من مُتطلبات الاشتغال المعرفي والأمر لا يتوقف عند هذا الحد إنما ينبغي أن يكونَ صاحب المشروع الفكري فاعلاً ومواكباً لتحديات عصره فكتابة الهوامش على متن غيرك أو التأويل لا يسمنُ ولا يغني من الجوع. صحيح الشيء بشيء يذكر تعقيبك ذكرني بمقولة ماركس الذي أكد على أنَّ الأهم هو تغيير العالم وليس الاكتفاء بتفسيره. نعم يستمدُّ الفكرُ نشاطه وزخمه من معترك الواقع. ولا يجدي التحذلق الفلسفي نفعاً. ونحنُ استعدنا أقوالَ عديد من الفلاسفة أرى أنهُ قد حان الوقت للسؤال المركزي لماذا لم ينجح الفلاسفةُ في تقديم وصفات لتداوي من الأزمات الفتاكة؟ الحرب والتعصب والخوف من الموت والغطرسة والجمود العقلي؟ صديقي لا يوجدُ الحل الأخير لكل ما ذكرته وما يجبُ أن تنصرف إليه هو ماذا يمكنك أن تعمله لنفسك دون أن تتجاهل غيرك؟ مرة أخرى سيد سقراط كلامك يقودني إلى أحد مدشني فلسفة الأنوار «كانط» وهو يعلن مبادئه في أسئلته الثلاثة الجوهرية. ما الذي يمكنُ أن أعرفه؟ ما الذي يمكنني أن أعمله في الحياة؟ ما الذي يمكنني أن أرجو أو أتوقعه؟ وأنا أوصيك وأوصي نفسي قبلك بوضع ما قدمه كانط في صميم برنامج الحياة. سيدي قد حالفنا الحظ اليوم مشينا مسافة طويلة وهذه النعمة لا يوجدُ ما يوازيها قيمة ومنفعةً في الوجود. والآن أتفهم مغزى عبارة سبينوزا «ما من شيءٍ في الطبيعة أنفعُ للإنسانِ من إنسان يعيشُ على مقتضى العقل» قبل نهاية جولتنا أسألك بشأنِ السعادة التي يتهافتُ عليها الجميعُ ما رأيك حول هذه الغاية المنشودة هل يمكن إدراكها؟ سبق أن قلتُ «إن السعادة الحقيقية هي ما لا يعقبها الندم» والأهم في هذا المسعى الحياتي هو الوعي بواجبك وما إن تتأكد من أدائه على وجه الأحسن حتى تكتسبَ مزيداً من الاستعداد للنمو العقلي. أخيراَ نحن أمام مفترق الطرق وما أدري هل تجمعنا جولة أخرى؟ لكن أريد أن أستفسرك عن دور الفلسفة عندما تداهم الكوارث الطبيعية الإنسان وتضرب المجتمع؟ تمرُ هنيهة من الوقت وهو لا ينبسُ ببنت الشفة كأنَّه محملق في اللا شيء. إلى أن أسمع صوت زفيره ثم يقول صديقي إن الفلاسفة أعجزُ خلائق الله أمام الكوارث وما يقدمونه من الشروحات لاتزن مثقال ذرةٍ قياساً بما يقومُ به أصحاب الخوذ البيضاء. هل هذا تواضع منك؟ لا عزيزي ما قلته هو تحصيل الحاصل. وماذا عن الدعاة الذين نصبوا أنفسهم ناطقين باسم السماء يفسرون ويؤولون على هواهم؟ لا استغراب في ذلك هؤلاء مغرمون بإخافة الناس وتهويل المهول. هكذا انتهت الجولة بين سقراط ورفيقه. ربَّ سؤالٍ يراودُ القارئ لماذا يتم استدعاء سقراط مع أنَّه تفصلنا عنه مسافات زمنية طويلة؟ لأنَّ الفلسفة قبل سقراط كانت تدور حول آليات لاكتشاف الطبيعة أما مع فيلسوفنا فأخذت منحىً آخر ولا يهمها سوى اكتشاف روح الإنسان. كما أن سقراط حسب رأي شيشرون هو أول من دعا الفلسفة كي تنزلَ من السماء إلى الأرض.