إيريس مردوخ: أفعالنا مثل السفن التي نراقبها وهي تبحر

ثقافة 2023/02/25
...

  رولا حسن

رحلت إيريس مردوخ قبل أن تبلغ الثمانين، رحلت أيضا قبل أن ترحل بالأحرى فقدت ذاكرتها تماما وهي على قيد الحياة، واستمرت كطفل تجهل كل شيء عن نفسها، وتحيا على هامش محيطها، يخدمها زوجها الناقد والكاتب البريطاني جون بيلي. رافق بيلي مردوخ طوال أربعين عاماً وأصدر في أواخر التسعينات من القرن المنصرم كتاباً لافتاً عنوانه "مرثية إيريس" اعتبره النقاد من أبرز الشهادات الحية في القرن العشرين ومن أجمل نتاجات النثر في اللغة الإنكليزية.

وقد استوحى المخرج السير ريتشارد في العام 2011 فيلماً عن حياتها مستنداً عما كتبه زوجها جون بيلي في مذكراته حمل عنوان "ايريس" أدت فيه الممثلة كيت وينسلت دور ايريس في شبابها بينما أدت جودي دييش دور ايريس المصابة بالزهايمر.

منذ الدوس هكسلي لم يعرف الأدب الإنكليزي شخصية جمعت إلى الرواية هموما فلسفية وكونية بقدر ما فعلت مردوخ. كتبت 25 رواية وعدداً من المسرحيات والمؤلفات الفلسفية. وكانت معظم كتبها طويلة لا يقل عدد الصفحات فيها عن خمسمئة صفحة في أقل تعديل. والمعروف عنها أنها سلكت ما سمي لاحقاً بـ "النص المفتوح" منذ البداية، فهي لم تأبه لمعالجة موضوع واحد أو التوقف عند بطل محدد، وطالما أشارت في إلى المنحى الشكسبيري الذي يجمع حشدا من البشر، لا يشبهون الكاتب، بل إن أحدهم أكبر من الحياة نفسها إلى حد احتواء الكون. وقد كتبت مردوخ في مجلة انكوتر مقالاً يتناول فكرة الشخصية الإنسانية، فتقول إن "الفلسفة الحديثة تقدم لنا صورة ضحلة وعابرة عن هذه الشخصية، وأن هذه الفكرة تنهض على المذهب السلوكي المادي الذي ينحدر من هيوم"، وعلى الفكرة الدرامية التي تذهب إلى أن للفرد إرادة وحيدة منعزلة، المنحدرة من "كانط" وتنظر إلى أن الشخصية الإنسانية باعتبار أن الإنسان، من الناحية الأخلاقية، سيد كل ما يحيط به من أشياء، وأنه مسؤول كل المسؤولية عما يأتي به من أفعال، وأنه لا يعترف بأي شيء خارج ذاته. وتضيف قائلة، "إننا نجد عند سارتر صورة مماثلة للشخصية الإنسانية التي ليس لحريتها حدود، وأن هذه الصورة الوجودية تعبر عن وجهة النظر الليبرالية في الشخصية، وخاصة إذا وضعت جنبا إلى جنب مع وجهة النظر الماركسية".

ولعل عبقرية مردوخ أنها استطاعت أن تصيب شهية القراءة بمادة مغايرة للسائد والمروج له، حتى قورنت بهنري جيمس ومارسيل بروست وتولستوي ويذكر الكاتب جون ابدايك أن المسائل التي تتناولها مردوخ هي أكثر المحاور وروداً في العالم التخييلي.

لقد وصفت بأنّها مسرفة في استعمال النعوت والأوصاف، مستطردة، موزعة، عشوائيّة، مائلة إلى الترتيب المصطنع والتلوين الأثاري. وقيل إن روايتها تفجير نثري لكنز شكسبير حيث تختبئ الماورائيات في بطانة الغرائز ويعلو الصوت الأخلاقي وينخفض كأنّه صدى الكورس الإغريقي.

تعتقد مردوخ أن أدب القرن العشرين يقدم صورة باهتة وفقيرة للشخصية الإنسانية. وترى أنه يمكن تقسيم الرواية في القرن العشرين إلى رواية "بلورية "، ورواية "صحفية" حيث تستخدم الرواية "البلورية" الرمز أو ما كان قريبا منه في تصوير المصير الإنساني من دون أن تعنى برسم الشخصيات بمعناها المعروف في القرن التاسع عشر. أما الرواية "الصحفية" فتعنى بالتسجيل أو ما كان شبيها بالتسجيل. وترى مردوخ أن كلا الروايتين عاجز عن تعويض الخسارة التي لحقت بالشخصية الإنسانية خلال القرن المذكور.

وقد أيد زوجها الناقد "جون بيلي" في كتابه "شخصيات الحب" رأيها الذي تقول فيه إن الفلسفة الحديثة تقدم صورتين للإنسان. فهناك صورة الإنسان ككائن عاقل ومعقول كما ترسمه الفلسفة الأنجلو – ساكسونية، وهناك صورة الإنسان الشمولية (التوتاليرية) التي تظهر لنا في روايات سارتر والتي تستمد جذورها من التقليد الوجودي في أوروبا الغربية.

وقد أعلنت مردوخ أن الفن الروائي وحده يستطيع أن يعيد إلى القرن العشرين صورة الإنسان بين أقرانه ومن شأنها أن تصلح هذا الموقف المدمر.

لقد كان لإخفاق العصر الحديث في خلق صورة الإنسان الحر والاجتماعي معاً أثره البالغ في الرواية الحديثة. ولا سبيل إلى إصلاح هذا العيب إلا بالاهتمام الروائي المعاصر بخلق شخصيات مستقلة عن إرادته كما فعل تولستوي في الماضي وكما فعلت مردوخ فيما بعد حيث اعتنت بشكل كبير بخلق شخصيات حرة طليقة.

ولدت مردوخ في ايرلندا 1919 وتلقت تعليمها بشكل تدريجي في مدارس غير حكومية، وفي عام 1938 التحقت بمدرسة بادمنتوم كمغتربة في مدينة بريستول، ثم التحقت بكلية سمرفيل في جامعة أكسفورد من أجل تعلم اللغة الإنكليزية، وفي ذلك الوقت تحولت لدراسة الكلاسيكيات والفلسفة. وفي عام 1942 حصلت على درجة الشرف الأولى، ثم تركت جامعة إكسفورد الأولى، من أجل العمل في هيئة خزينة صاحبة الجلالة الحكومية، ثم عملت في إدارة الأمم المتحدة للإغاثة وإعادة التأهيل عام 1944. وتنقلت بين عدد من الدول الأوربية قبل أن تترك الإدارة في عام 1946. وفي العامين التاليين بدأت بالتحضير للدراسات العليا في مجال الفلسفة في جامعة كامبردج.

تزوجت ايريس من الناقد والروائي جون بايلي 1956، واتسمت علاقتهما برومانسية غير اعتيادية استمرت حتى وفاتها في عام 1999 عن عمر قارب 80 عاما إثر أصابتها بمرض الزهايمر.

تقول آيريس: "أفعالنا مثل السفن التي نراقبها وهي تبحر، ولا نعرف متى وبأي شحنة ستعود إلى الميناء".. عادت ايرس إلى الميناء تاركة شحنة عالية من المعرفة كتركة كبيرة للأجيال المقبلة.