قلق الكتابة وصناعة النص

ثقافة 2023/02/25
...

 ابراهيم سبتي 


هل يشترط على الكاتب أن يمرَّ بظروف عصيبة ومزاج متعكر وأجواء كابوسية واضطراب مزمن وعزلة مطلقة، لكي تكون كتاباته الروائيّة والقصصيّة والشعريّة متميّزة وتأخذ حيزاً من الشهرة أكثر من سواها من الكتابات؟، الجواب سيكون صعباً هنا لأنَّ الكاتب هو نفسه إن كان يعيش في دعة ورغد وطمأنينة، أو إن كان يعيش الأزمات والاستلاب والجنون والعزلة. لكنه يختلف بالضرورة في طريقة التفكير والتعاطي مع الحدث والفكرة والمعالجة وقضايا المجتمع. سيكون أكثر عمقاً بالتأكيد عن غيره، فهو يكتب الأشياء المختلفة التي تنتج عن الصراع النفسي والإنساني. ولنا في بعض الكتاب أمثلة واضحة على هذا التميز والاختلاف. فالألماني كافكا، كان كاتبا قلقاً ومزاجياً، بل يشعر بالجنون أحياناً وهو يكتب وينتزع أفكاره من عقله الغائص في أتون الكوابيس والحياة العبثية التي لا يرى أي معنى لها. إن هذه السوداوية التي كانت تطغى على أفكاره انتجت أعمالاً قصصية وروائية تكاد تكون مختلفة تماماً عن أعمال غيره من الكتاب رغم أنه كتب تلك النصوص المليئة بالغموض وعدمية الحياة، التي لم يعش لها كما عاشها ويعيشها باقي البشر. هذا الكاتب الذي أنتج رواياته مثل المسخ والمحاكمة وفي مستوطنة العقاب وغيرها والتي قرأناها بشغف. هي وليدة العزلة والاستلاب النفسي وأزمات ظلت تنخر في عقله ليكتب هوس الإنسان وقلقه، كانت تغوص بعمق في أعماق كل إنسان مهما كان نوع تفكيره. إنَّ الكاتب الذي ينهل من أزماته النفسيَّة وانكساراته ومكابداته وأيضا من واقعه، سيكون أفضل من يتعاطى مع الأحداث بنكهة خاصة معبّرة عن خفايا النفس البشريّة وخاصة أنّه أكثر من غيره في تصوير أحاسيس الغير ومشاعرهم بأصدق ما يكتب من سرد. إنَّ خيال الكاتب مهما كان حاضراً، إلا أنه لم يصل أحيانا إلى دواخل الناس وأحزانهم التي تحتاج من يلامس أغوارها وإظهارها كلوحة رسمت بكل الآلوان الزاهية يفهم معناها كل من يراها. فالكتابة هي وسيلة أقرب للعلاج المناسب للتقليل من الضغوط النفسيّة والعزلة. وقد تساعد في إبعاد المشاعر والهواجس القلقة والأفكار السلبية التي تعتري الكتّاب وتدخل في أغوار استقرارهم النفسي والإنساني والاجتماعي. إن الروائيين أكثر الكتاب الذين يشعرون بهوس القلق والمشاعر المشوشة. فقد تساعدهم الكتابة الإبداعيّة في سحب الأفكار المضطربة من رؤوسهم ووضعها على الورقة البيضاء التي تعد بمثابة كاشفة ومرآة للتقليل من ذلك الهوس. ومن ثم الراحة التي يبحثون عنها وهم يرون أنّهم انتجوا روايات ساحت فيها كل اضطراباتهم ومشكلاتهم وقلقهم وأسباب عزلتهم. يقول فوكنر عن القلق في الكتابة: "الكاتب مبدع تدفعه شياطين الكتابة، وهو لا يعرف لماذا اختارته الشياطين هو بالذات، وهو دائم الانشغال بالتساؤل عن سر ذلك".

فـهمنغواي مثلا كان يكتب وهو واقف أمام الآلة الكاتبة ولا يعرف الجلوس أبدا لأنّه يشعر بالانزعاج والقلق الذي ينتابه في حال الشروع بالكتابة.. وقد ذكر في أحد حواراته أنه كتب الصفحة الأخيرة من روايته وداعا للسلاح بحدود 39 مرة متتالية. والروائي المصري ابراهيم اصلان كتب روايته "مالك الحزين" في المقاهي ووسط الصخب والجلبة والضجيج وصراخ الناس. وأعتقد أنه هنا يعكس الاضطراب والقلق المتزايد من فعل الكتابة ذاتها والتي تحرك المشاعر التي تفتح مغاليق الإبداع والموهبة. كثيرٌ من الكتّاب يلمسون ذلك القلق كهاجس يومي يسيطر على انفعالاتهم ومن ثم يؤثر مباشر على الفعل الإبداعي لديهم. أعتقد جازماً بأن كل إبداع في الأدب إن كان شعراً أو سرداً ناتج عن إحساسٍ عالٍ بفيض من الهذيان المنتج الذي يؤدي بالنتيجة إلى صناعة عالمه الخاص في سلسلة البوح المرتبط مع الموهبة. وليس كل موهبة بالضرورة أن تنتج إبداعاً متميزاً لولا وجود المران والبوح والانثيال والهذيان الهادف والدافع النفسي والعقلي والإنساني. إنَّ الروائي يصنع عالمه بحرفيَّة واتزان وإقناع ومن ثم يكون شاخصاً أمام قضايا مجتمعه وواقعه وأكثر من يعبّر عن هموم الناس الذين سيظل ينهل منهم أفكاره ومواضيعه وهواجسه. فشهرة أي عمل أدبي ترتبط ارتباطاً قوياً بمشاعر الكاتب وقلقه الدائم، بضرورة صناعة مخيلة تليق بما يشعر به الناس رغم عزلة البعض وابتعادهم عن هموم المجتمع.