المعنى وصراع الديكة

ثقافة 2023/02/26
...

 عادل الصويري


كثيرٌ من متبني الحداثة الشعريَّة، لا يَرَوْنَ للمعنى أهميةً؛ وليس مهماً عندهم ما يُقال إنَّ قيمة النص الشعري تفقد قيمتها بغياب المعنى.

هذا التشدد الحداثي تجاه المعنى، يبدو انفعالياً وليس موضوعياً، فعلى أي أساس يتم اعتبار المعنى قيداً يحاصر الحداثة، ويعيقُ حركتها؟ 

وحتى لو ظهرت أصوات متشددة من الطرف المقابل (أنصار المعنى).

واتهمت الحداثيين بتهم الشذوذ عن الكلام الشعري؛ فهذا لا يتعدى في الحقيقة كونه صراعَ ديكةٍ له وقتُه الذي سينتهي، وإن تَحَوَّلَ إلى تنظيرات. 

فالجمالُ حاضرٌ أبداً طالما امتلكنا حساسيّةً تجاهَ ما يُقالُ فيه، لكنها – الحساسية – معقولة وغير شاطحة إلى ما هو بعيد عن التصور والإحساس والفهم. 

لا يمكن القول بالمعنى، لمجرد أنّه جاء صريحاً واضحاً خالياً من أيِّ تصرّف إبداعي، ولا يمكن بالمقابل اعتبار الكثافة التخيليّة المجازيّة المتدفقة بشكل مجاني، خلاصةً نهائيةً لحركة التجديد في الشعر. 

أعتقد أنَّ بعض شعراء اللامعنى، أو ما وراء المعنى، تأثروا بالموجات النقديَّة التي ترى أنَّ قيمة الشعر الحديث، تكمن في عبور حاجز الوظيفة، وأنَّ المعنى هو الوظيفة التي يجب على الشاعر المغامر عبورها. 

هم يعتقدون تحت وطأة الضغط النقدي التنظيري، أنَّ التشبّث بالمعنى، والدفاع عنه؛ إنّما هو دفاعٌ عن الصورة التقليديَّة للشاعر الذي يجب أن يظل لسان حال قبيلته، والناطق الإعلامي الرسمي لغزواتها ومفاخرها. 

لكن من قال إن المعنى هو هذا الذي

يتصورونه؟.

كما أنَّ أنصار المعنى التقليديين اتهموا خصومهم بالترف، ووصفوا كتاباتهم على نحو التعميم بالمعزولة عن زمنها وواقعها، وأن شعريّة قصائدهم - في حال سلّموا بشعريتها – عصية على الاستدلال عليها، أو إظهار ملامحها، لذهابها عميقاً في الأسرار والمجاهيل، أو ربما متاهات الخيالات الغريبة؛ بهدف تحقيق فُرادة مفترضة. 

والآن، هل ثمة رؤية تقف منتصف الرؤيتين السابقتين؟.

 لو أخذنا رأي الشعر - بما هو - لقال لنا: أريد المعنى واللا معنى، أريد أن أعانقهما معاً؛ لأن دهشتي تكمن في اتحاد المدلول بالمتخيَّل، في زواجهما الذي سيبتهج على سرير اللغة، وينتج أطفالاً من الورد الشاعريّ الأخّاذ، والرؤية التي تجذب الآخر لعمقها.

ثم يطلب من المتصارعين أن يفسحوا المجال للمتلقي غير التنظيري ليقول كلمته، ويعطي للنص جواز المرور إلى الحياة، بعد أن يقوم بإيصال ثقافته وقراءاته، مع ما التقطه في النص من إشارات.

لم يعد نافعاً الاستشهاد بقصّة أبي تمام مع الذي سأله عن بعض مكامن الغموض في قصائده: «لماذا تقولُ ما لا نفهم؟»

ليجيب أبو تمام: «ولما لا تفهمون

 ما يُقال». 

لم تعد هذه القصة كافية لنتشبّث بالألغاز الكلاميَّة، والتراكيب التي يتم عبثاً إقامة العلاقات بين عناصرها، لتبرير حالة سيول المجانيَّة التي تجتاح القصائد المعاصرة، تحت ذريعة الثورة على المعنى.

وكذلك لم يعد مقبولاً تقديم أطباق كلامية مُتَبَّلة بالهتافات والشعارات ذات البعد السياسي المؤدلج؛ لنقول نحن أهل المعنى القريب من هموم الناس 

وواقعهم.

وإذا كان لا بدَّ للشعر من وظيفة، فهي بالتأكيد جعل القارئ مطمئناً بعيداً عن ارتياب الذائقة، التي وإن انحازت وفق الذوق الجمعي للقديم المتأصل، إلا أنه وبجهد جمالي يمكن إقناعها بشكل تدريجي بالتجديد المنطلق من قصديات جمالية.

إشكالية المعنى واللا معنى ناقشها خيري منصور في كتابه (أبواب ومرايا.. مقالات في حداثة الشعر) حين تكلّم عن الشعراء الذين يصدِّرون أفكارهم غير المألوفة من خلال القصائد، والتي زادت من ارتياب القراء، رغم سعي الشعراء بتقديم هذه الأفكار وفق الصورة التي تعكس التداخل بين الفكر والعاطفة كما في قصيدة الشاعر اليوناني سيفيريز: «يتجمد دمك أحياناً كالقمر/ في الليل الذي لا ينتهي يفتح دمك أجنحته البيضاء/ على الصخور السوداء.. على حوافي الأشجار والبيوت/ مع شعاع الضوء المنبعث من أعوام طفولتنا».

ويرى أن ما يتحقق من هذا النص ليس سوى تعبير بالكلمات تؤدي إلى شيء مفقود.

ثم أشار إلى الشعراء الذين كانت لهم ردود فعل لمواجهة ردود فعل التلقي السلبي لمحاولاتهم «التجديديَّة» فراحوا يعلنون عن ضرورة اكتفاء الشعر بأصوات الكلمات التي «تؤدي فعلها الموسيقي» ومنهم الشاعر الإيطالي (بالا زيتش) الذي قال في قصيدة له: «تري تري تري/ فرو فرو فرو/ أيهو أيهو أيهو/ أوهي أوهي أوهي»، ثم يشير إلى نهايات هؤلاء الشعراء التي وصفها بالطريفة واللا شعرية حين اتجهوا للكتابة عن الطيران، والطبخ في 

المستقبل.