السرد غير الواقعي في رواية «مزرعة الحيوان»

ثقافة 2023/02/26
...

 د. نادية هناوي

يمثل قانون الاحتمال الأرسطي الأساس الفني الذي عليه يبنى السرد غير الواقعي والذي به يتحول المستحيل وقوعه إلى ممكن الوقوع، فتغدو للسارد مثلا إمكانيات تجعله يتحرك بشكل غير محدد، وقد لا يتعارض في تحركاته مع نظيره في السرد العجائبي سوى في ملمح واحد هو  أن الأخير يماشي قوانين الطبيعة. أي إن الفعل العجيب والغريب يظلان ـ بكل أنواعهما الخارقة والمفزعة والمغلقة وغير المعقولة ـ محددين بما يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتجه بشكل عام وخالص.

وليس لإنتاج سرد غير واقعي سوى التمسك بمنطقيّة الحبكة السرديّة، وبما يعطي للتخييل مشروعية الامتداد في الحدود والاتساع في الاحتمالات التي يمكن للكون السردي الاشتمال عليها. وإذا كانت احتمالات تخيل الكون السردي تنحصر في أن يكون حاصلا ويتم استرجاعه أو يكون متحصلا وتتم متابعته على مقصدية تحصيله عاجلا أو مقصدية استباقه آجلا. وهذا الاحتمال الأخير هو الذي يظفر بأدائه السارد من خلال التنبؤ بما يمكن أن يحصل من أحداث لا معقولة أو التكهّن بمستقبل ما تعيشه الشخصيات من أحوال وأهوال غير واقعية يستغرب أمر وقوعها.  وتُعدّ روايات الحرب والرعب والفنتازيا وروايات المغامرات والسحر والروايات البوليسية من السرد العجائبي الذي هو واقعي لأنه في خارقيته ولا مألوفيته مرتهن بالطبيعة وعائد إليها. ومن ثم لا يتحرك السارد والمسرودات والمسرود له خارج الأطر التي ترسمها الطبيعة لهم.  

وإذا كانت قصص الخيال العلمي تتضمن العجيب، فإنه عجيب لا يأبه بمحاكاة الواقع على نحو كلي، منطلقا من مقدمات غير عقلانية فوق طبيعية ومنتهيا بطريقة عقلانية عند القوانين التي تتطلبها منطقية السرد وليست القوانين التي بها يقر العلم الطبيعي.

يختلق السرد غير الواقعي برتوكولات فنية، متى ما عرفها القارئ توافق مع السارد وعرف كيف يهتدي من قراءة القصة أو الرواية غير الواقعية إلى غايته وهي الفهم مطمئنا إلى ما يقوم به السارد الموضوعي من دور وظيفي، مقتنعا بكل ما يقص عليه من غرائب وعجائب ومتطامنا مع ما تمر به المسرودات غير الحية أو اللا ناطقة أو المجنونة أو الحيوانية من تأزم وضعه السارد فيها فتحتبك الأحداث احتباكاً لا بدَّ له من مخرج تتخلص عبره المسرودات من تأزمها أو تصل إلى حل منطقي مقنع هو بمثابة أفق انتظار يترقبه القارئ ويتوقع حصوله ومتشوقاً إلى بلوغه. 

وهو ليس بالاشتغال الجديد فلقد عرفته أقدم المرويات الخرافية ومنها (حكايات ايسوب) وهي مجموعة قصص ذات طابع شعبي ومغزى أخلاقي، عرفت في القرن السادس قبل الميلاد وعددها 207، وأبطالها من الحيوانات والآلهة والناس. وفيها يُجري السارد حوارات على لسان حيوات غير ناطقة ولا آدمية قاصدا بذلك كسب ثقة المسرود له في أن ما يسمعه واقعي وطبيعي كما في رواية (مزرعة الحيوان) لجورج أورويل، وقد نالت اهتماماً نقدياً منذ أن نشرت عام 1945 وأغلب القراءات فسرت الأحداث اللامعقولة فيها تفسيرا رمزيا سياسيا، القصد منه مناوئة الفكر الشيوعي ومواجهة ستالين أو التأشير على فشل السياسات القمعية.. غير أن استبعاد اللامعقول عن أية اليغورية والنظر إلى العمل نظرة خالصة لوجه السرد لا غيره، سيسفر عن قراءة أخرى لها صلة بالسرد غير الواقعي وكيف أن هذه اللاواقعية هي الوسيلة التي بها تحققت الغاية المتمثلة بالواقعية ومن ثم لا مباطنة بالرمز ولا استثمار للاستعارة، بل هي المحاكاة التي تبدأ بالمحال المحتمل الذي ينتهي عند الممكن المحتمل على عكس السرد الواقعي الذي يحاكي الممكن المحتمل وينتهي عند الممكن المحتمل أيضا. 

واللاواقعي في الرواية هو أن الحيوانات تمارس ما يمارسه بني البشر جنبا إلى جنب الممارسات المعتاد منها ممارستها في عالمها الحيواني. وتبدأ الرواية بالسيد جونز صاحب مزرعة القصر وقد هزمه الخنزير العجوز ميجر الذي عقد اجتماعا لحيوانات المزرعة وألقى خطابا تحريضيا، سرد فيه حلما رآه فتنبأ بمستقبل هذه المزرعة. والحيوانات التي حضرت الاجتماع: الكلب بلوبيل والكلبتان جيسي وبينشر وجلست الأبقار والخرفان وشرعت في الاجترار ودخل حصانا العربة بوكسر وكلوفر والعنزة موريل والحمار بنامين أكبر حيوانات المزرعة وأكثرها حدة والفرس موللي ولم يحضر الاجتماع الغراب موسى.

ولا يخفى ما يتمظهر به السارد الموضوعي في كل ما تقدم من حرص على جعل المسرودات متجانسة معه واثقة ومصدقة ما يسرده عليهم. ووسيلته إلى ذلك هي التفاصيل التي يرصدها مقاربا الحال الحيواني بالحال الآدمي مستعملا مفردات الثوار المحرضين على النضال (أيها الرفاق لنقم بثورتنا متى موعد الثورة هذا ما جهله خلال أسبوع ربما أو خلال قرن.. لا ترفعوا أعينكم عن الهدف أيها الرفاق طيلة ما بقي من سنين عمركم) الرواية، ص19. وكذلك شعاراتهم البراقة (جميع الحيوانات متساوية لكن بعضها أكثر مساواة من غيرها) الملهبة للحماس والدفاع عن المبادئ (ما هي إذا أيها الرفاق طبيعة وجودنا للنظر إلى الأشياء بلا خوف: إننا نعيش حياة الكد حياة البؤس حياة قصيرة جدا ما أن نأتي إلى العالم يطعموننا ما نسد به رمقنا فقط ومن لا يملك بيننا القوة المبتغاة يذبحوه بوحشية مفرطة.) الرواية، ص16. وتندلع الثورة الحيوانية وتتسيّد الخنازير الثلاثة على المزرعة وتضع الدستور المعادي للبشر (العدو هو كل من يمشي على قدمين والصديق هو من يمشي على أربع أو يطير لا تنسوا أيضا أن المعركة ذاتها لا ينبغي أن تغرنا فنصبح مثل العدو) الرواية، ص21. ويقوم سكويلر الخنزير الأكثر شهرة بإعداد نظام فلسفي أطلق عليه الحيوانية عرض فيه مبادئ الحيوانية. وتعترض المهرة البيضاء على هذا النظام متسائلة هل يكون السكر متوفرا ويرد الخنزير سنوبول بنبرة قاطعة (ليس لنا في هذه المزرعة الوسائل لصناعة السكر على كل حال السكر شيء غير ضروري) الرواية، ص27. وبسرعة تعتاد الحيوانات على الحياة الجديدة فتحلب الخنازير الأبقار وتحصد حيوانات اخرى المزروعات وتتعلم القراءة والكتابة وتغدو الوصايا السبع قانونا غير قابل للتغيير. ويستثنى من هذا الحال الغراب الذي وجد القادة صعوبة في استقطابه لإيمانه بوجود حياة أخرى اسمها جبل الحلوى راح يبشّر بها المجموع الحيواني. 

وكلما تقدم قارئ الرواية، تعززت فاعلية السارد الموضوعي في التقاط التفاصيل التي تضفي على الحدث الخارق لقوانين الطبيعة مزيدا من الواقعية بما يجعل المسرود له متابعا السارد من جهة، والسارد مركزيا فيما يحكيه من خوارق تبدو واقعية من جهة أخرى، نظراً لدقة التفاصيل المحكية من قبيل التحرر من سيطرة البشر والعمل بمساواة لا تمييز فيها ولا استغلال.