صدى الأصوات الأنثويَّة في الشعر

ثقافة 2023/02/27
...

  رزان الحسني 

لطالما كان الحديث موغلا في مركزية المرأة في الشعر واستخدامها كمادة ثريَّة لا غنى عنها، تغرق ولا تغرق، فالقصيدة التي لا ذكر للأنوثة فيها هي - وبتحيّز جميل - قصيدة جافة، ومع ذلك، فهناك صوت أنثوي في الشعر لا تتواجد من خلاله المرأة كمادة، بل كصوت حسيّ عميق، تتشرّب به القصيدة ولا تنز، كأرضِ بستان بعد ليلة ماطرة، هو صوت الحكاية الغائب، والخطاب المتخفي الذي يروى على لسان الشعراء الذكور، في أغلب الأحيان.

 وأفترض وجود صوت مقابل لهذا المفهوم خلف قصائد الشاعرات أيضا، ولكنّه، بحكم السلطة الذكوريَّة في اللغة والمجتمع، هو صوتٌ جهوريٌّ واضح، على عكسِ الأنثويَّة في الشعر، التي حتّى لو كانت تصرخ بأصلية شعريتها، برغم اقتباسها من لسان النساء، تظلُّ بشكلٍ ما تعود دوماً بالنفع لقائلها فحسب، من دون تقّصٍ أو تمحيص تأمليّ في جذورها. 

وهذه الحقيقة لا تُقصي دور الشاعر في صياغة الصورة الشعريَّة الحيَّة للصوت النسائي، وبث الحياة في ذاتها الشاعرة الخفيَّة، كما لا ينقص من شأنهِ اعترافه بأنَّه قد استمدًّ إلهامه من كيانٍ خارجي، فمبدأ الشعراء أن يعزوا إلهامهم للطبيعة والذكريات والتجربة الذاتيَّة والشعراء القدامى وكلّ ما يُمكنه أن يبعث على الإلهام ويبثّ أفكاراً تنبض في قريحة الشاعر، عدا اعترافه بأنّه قد استمدّه من تجربةٍ إنسانيّة معاصرة لحياته. 

يقول الشاعر ت. أس. إليوت في قصيدتهِ الأشهر أرض اليباب عند المقطوعة رقم 35 و 40: «أعطيتني زنابق أول الأمر منذ سنة؛ فصرت أُدعى فتاة الزنابق/ ولكن حين رجعنا متأخرين، من حديقة الزنابق/ ذراعاك ممتلئتان، وشعركِ مبلول/ ما استطعت الكلام، خانتني عيناي/ لم أكن حيّاً ولا ميّتاً، ولم أعرف شيئاً وأنا أنظر في قلب الضياء، الصمت..»، تبيّن لاحقاً أنّها مستمدّة من إحدى رحلاته مع إيميلي هيل، حبيبته في المراسلة، والتي صرّح في إحدى رسائلهِ لها أن هذه المقطوعة لها شخصياً. وفي قصيدةٍ أخرى «الرباعيات الأربع» وهي لا تقل أهمية عن أرض اليباب، يرد ذكر مباشر للمنزل الريفيّ الذي زاره مع هيل، والحديقة التي جسّدت علاقتهما: «تتردد أصداء خطىً في الذاكرة،/ على الطريق الذي لم نسلك، ونحو الباب الذي لم نفتح أبداً/ في حديقة الورود تتردد كلماتي في عقلك هكذا/ ولكن لم نثر الغبار على آنيةٍ من بتلات الورد؟/ لا أدري./ أصداء أخرى تسكن الحديقة، هل نتبعها؟../»، ثم ينكر إليوت في الملاحظة التي تركها لأوصيائها علاقة هيل بشعره، بل يصف أثرها على قريحته بالسلبيّ لو كان قد سمح لها في الخوض فيها.. «كانت لتقتل الشاعر فيَّ»، ولكن لم يخذل الشاعر مصدر إلهامه؟ لا أدري!. إن إليوت يعترف أيضاً في رسائله بأن المقاطع الأولى من أرض اليباب التي يرد فيها ذكر ماري هو مستمدٌّ حرفياً من حياة صديقته ماري موريتز، التي تصف له طفولتها بالتزلق على الجبال والقراءة الوحيدة في الليالي. كما أن مقاطع «لعبة الشطرنج» في القصيدة ذاتها تعبّر عن امرأة يأكلها القلق والتوتر: ما ذلك الصوت؟» الريح تحت الباب./ «، والآن ما ذلك الصوت؟ ما الذي تفعل الريح؟؛/ لا شيء ثانيةً، لا شيء. «هل تعلم لا شيء؟ هل ترى لا شيء؟ هل تذكر، لا شيء؟/ أذكر، لؤلؤتين كانت عيناه..»، كما تحكي هذه المرأة بدورها موقفها مع امرأةٍ فقيرة تقوم بالإجهاض. الأولى هي زوجته ومحررته فيفيان هيغ وود، والتي كانت تعاني من اضطرابات عصبية ونفسية، والثانية كانت خادمتهم في المنزل، وهيغ يعجبها النص بالفعل وتضيف إليه البيت المثير للجدل حتى الآن: لِمَ تتزوّجون إن لم تريدوا الأطفال؟ 

ومن شعراء الحداثة العرب الذين عكس شعرهم صوت أنثوي دائماً، هو الشاعر أبو نواس، والذي يدرك فضل النساء في صناعة موهبتهِ في قوله: «ما قلتُ الشعرَ حتى رويتُ لستين امرأةً من العرب..»، ولا داعي لأن أعدد كل الشعراء العرب الذين ارتبطت تجربتهم الشعرية بتجربة النساء، لأنَّ الشعر العربي قد اشتمل أغلبه على النساء، ولكن الفارق فيمن اتّخذ صوت المرأة الإنساني ووجودها الكامل كخلفيّة جمالية لقصيدته، ومن اتّخذها غرضاً اعتيادياً من أغراض القصيدة، فضلاً عن فارق فضيلة الاعتراف التي نفتقدها في ردِّ الأمور لأصولها، فكما أن هناك تناصاً أدبيّاً، لا بدَّ من وجود تناص إنساني، برغم عدم تاريخه على أرض الورق، لكن للذهن البشريّ تاريخا لا يقلّ أهمية، ومن ثم تناصاً لا محالة. إنَّ النقد الإنكليزي لا يقل شراسةً عن النقد العربي في إنكار دور الذوات النسائيّة في القصيدة القديمة والحديثة للشعراء الذكور، مُطلقين على منطقها بالعاطفيّ المثير للشفقة، غافلين حقيقة أن الشعر الذي كُتب وسيُكتب لا يمكن تجريده من الأنوثة المتشبّثة بين أسطره ويبقى شعراً مع ذلك، متجاهلين أنَّ الأنوثة لا تتضمن كياناً فحسب، بل هي الجماد أيضاً، والجماد المؤنث يشترط لغةً وحكاية وروحاً نسائيّة مثله، فالحقيقة والفكرة والنفس أنثى، وهذا بالكاد ما تحصل عليه المرأة من اللغة الأحادية التي واجهتها سابقاً وتواجهها الآن، فإنَّ أسلوبيّة اللغة الشعريّة تنعطف انعطافاً واضحاً ما إن يشتمل الحديث على خطابٍ أنثوي، لكأن المعنى يشعّ لونه ويصبح أكثر وضوحاً، فالرقّة تصبح أرقّ، والحزم يصبح أكثر شدّة، والحزن يصبح أكثر بكائيَّة، والفرح يصبح أكثر سعادة، والابتهالات تصبح أكثر صدقاً. يناجي أبو نواس المنزل العزيز الذي يخلو من ساكنيه: «يا دار ما فعلت بكِ الأيامُ*** ضامتكِ والأيام ليس تُضامُ»، ولا أعتقد أن هذه القصيدة كانت سترسخ في ذهن القارئ ما إن يسمعها لو استبدل أبو نواس الضمير المذكر بالمؤنث في مفردة «البيت - الدار» فيها، وما كان تأثر بها محمود درويش في جداريّته الشهيرة وخاطب نفسهِ كأنّها امرأته: «أَنا مَنْ يحدِّثُ نفسَهُ: يا بنتُ: ما فَعَلَتْ بكِ الأشواقُ؟/ إنَّ الريح تصقُلُنا وتحملنا كرائحة الخريفِ،/ نضجتِ يا امرأتي على عُكَّازَتيَّ/ بوسعك الآن الذهابُ على «طريق دمشق»/ واثقةً من الرؤيا. مَلاَكٌ حارسٌ/ وحمامتان ترفرفان على بقيَّة عمرنا، والأرضُ عيدُ..».إنَّ الذات الأنثوية هي الذكريات التي لا تستطيع النفس الهروب منها سوى باللحاق اليائس بها، ومدينة الطفولة التي فارقتنا قبل أن نفارقها، هي الأم، آلهة النساء، التي عرفناها أول الأمر، وظلّت ذكراها البعيدة تلازمنا كخدشٍ رقيقٍ، أو عميق، في القلب، هي الذات التي نبحث عنها مثل الإبرة في كومةِ قشّ. في قصيدة شاعر الحنين والمنفى، سركون بولص «المرأة الجانحة مع الريح» لا يسع القارئ سوى أن يتحدّى نفسه بكميّة المفاهيم التي يمكن لهذه الأبيات تجسيدها في قلبه، فيقول: «لو رأيتَها، تلك المرأة الجانحةَ مع الريح/ وفي عينيها علائمُ زوبعة قادمة/ وشعرها، منذ الآن، ينتفش في دواماتها،/ لا تترددْ وخبّرني، فهي قد تكون ضالتي/ قد تكون من ذهبتُ أبحث عنها في القرى والأرياف البعيدة/ حالماً أن أجدها في زقاق

 مقفر..».