في رثاء قديسة المسرح

ثقافة 2023/02/28
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب

أتذكر حين أقلنا الباص الذي جهزه الأستاذ مفيد الجزائري مدير جمعية الثقافة للجميع من بغداد للذهاب إلى كركوك في ذكرى وفاة القاص والكاتب المسرحي جليل القيسي تأبطت أنا دراسة عنه كنت مزمعاً تقديمها في الأمسية، وكان بمعيتنا آنذاك أساتذة أكفاء كفاضل ثامر وياسين النصير وعقيل مهدي يوسف وحسب الله يحيى وعدنان منشد وابراهيم الخياط وآخرين والممثلة الرائدة ازودوهي صاموئيل التي بدورها انتحت جانباً من الباص وراحت تذاكر دورها بصوت خفيض.

 فهي من النادر أن تحضر محفلاً ثقافياً من دون أن تسهم فيه بمشهد مسرحي أو أهزوجة شعبية أو موقف درامي.. اكتظت قاعة اتحاد الادباء في كركوك بجمهور غفير وضجيج يصم الآذان فكيف السبيل لأن يسكت هذا الجمهور الصاخب ليبدأ الحفل؟

حينها صعدت ازودوهي الخشبة وصاحت بأعلى صوتها فساد صمت جليل واشرأبّت الأعناق لترى من هي تلك المراة السبعينية التي اعتلت خشبة المسرح وشدت الانظار.. قدمت حينها مشهداً مؤثراً من مسرحية (لغة الأمهات) اخراج قاسم محمد الذي يقول عنها بأنّها: (من أكثر الممثلات تطابقاً مع ذاتها واندماجاً مع الدور الذي تلعبه اضافة لصدقها وإيمانها بما تقول) فهي ابنة فرقة المسرح الفني الحديث وابنة منهج (الواقعية النفسية) في الاداء التمثيلي والحضور اليومي الذي تعيشه مع الشخصية على وفق مبدأ (المعايشة) الذي اشترعه (ستانسلافسكي) في مدرسته الشهيرة.

آمنت ازودوهي بفرقتها التي قدمتها للجمهور الواسع (فرقة الحديث) وطروحاتها الماركسية الناقدة واهتماماتها الطبقية في مواضيعها المسرحية والتصاقها بالجماهير تلك الفرقة التي انضمت اليها قبل ان تدخل للدراسة في معهد الفنون الجميلة طالبة في قسم المسرح فرع التمثيل ولتكون أول امراة خريجة في بلادنا في اختصاص التمثيل عام 1962 وتتعين مباشرة في مدينة الرمادي معلمة لمادة المسرح والتمثيل في مدارسها النائية، وعند مجيء انقلاب شباط الأسود عام 1963 أعتقلت ازودوهي مع من اعتقلن من شابات الحركة اليساريَّة وممثلات الفرقة وأودعت السجن وتعرضت للتعذيب وطردت من الوظيفة لتعمل في محل للحلاقة النسائية لتكسب قوتها بعد إغلاق الفرقة ومسرحها.

عاشت ازودوهي أياما عصيبة من الاستجواب المستمر والمراقبة والتعنيف من قبل رجال الأمن، لكنها لم تترك العمل في الحقل المسرحي، إذ عادت إليه في نهاية عام 1966 فمثلت في مسرحيات (المفتاح) و(النخلة والجيران) و(صورة جديدة) و(حرمل وحبة سودة) و(تموز يقرع الناقوس) و(ايراد ومصرف) و(الخرابة) وغيرها.  

إن ما يميز ازودوهي صاموئيل هو اعتناقها لفكرة المسرح بشكلها الصوفي التجريدي من جهة فهي لم تتمتع بحياتها الاجتماعية مثل الأخريات فبقيت عزباء لم تتزوج طيلة حياتها، وظلت أمينة لرسالتها المسرحية وشظف العيش وزهدها الذي يقترب من زهد القديسين والمتصوفة وإيمانها بأنَّ للمسرح القدرة على التغيير الاجتماعي والتأثير بالجماهير ووعيها، لذا لم تنجرف للمسرح الهابط والاستهلاكي على الرغم من الاغراءات العديدة التي قدمت لها للعب دور الأم في المسرح التجاري، لكنها رفضت تلك الدعوات وانشغلت بتصوير دور الأم في الفرقة القومية للتمثيل التي انتمت إليها عام 1977 بمسرحيات (الأمس عاد جديداً) و(محطات السنين) و(المومياء) و(ابن ماجد) التي جسّدت فيها دور الأم الافريقية التي يبقى ولدها رهينة لدى القرصان فاسكودي غاما لحين مجيء البحار ابن ماجد ليوافق على أن يدل القرصان البرتغالي على طريق الهند ويطلق سراح ولدها، بنص الراحل (عزيز عبد الصاحب) واخراج الراحل (سعدون العبيدي) إذ تقول:

الأم: (تتقدم) الدنيا أكبر ياغاما... الدنيا اوسع من اعتقال صبي.. صمت كل هذا الوقت.. لم انبس بكلمة.. أعرف أني أحق منكم جميعا في الكلام.. ولكنني صمت كل هذا الوقت لعلك تستيقظ.. أعده لي يا غاما.. أعد لي ولدي.. لا تجعل أمَّا عزلاء ندا لك يا غاما..

في أداء بليغ ومشاعر جياشة نمت عن قدرة أدائيّة متفرّدة لدور عشقته الراحلة وذابت في كلماته ولم يعجزها الانفتاح على المدارس والاتجاهات الادائيّة الحديثة بعنوانات (التجريب) و(مسرح الحداثة) و (الارتجال) فاشتغلت ممثلة في مسرح الصورة وسادنه المخرج (صلاح القصب) الذي استدعاها لتكون ممثلة رئيسية في عرضي (العاصفة) و (حفلة الماس) بشواغل مسرحية جديدة لم تألفها الراحلة، لكنها تماهت وانسجمت معها وشكلت حضوراً آسراً بفعل طاقتها الروحيّة الهائلة وامتلاكها لكارزما أصيلة تودها العين وتريد حضورها، واتجهت في أخريات أيامها للعمل مع المخرجين الشباب ذوي الرؤى المغايرة والقراءات المنشقة على السائد المسرحي على الرغم من كبر سنها وشيخوختها، إلّا أنّها اندمجت مع عروض تجريبية فيها قدر كبير من الصعوبات الحركيّة على جسد الممثل ولياقته في عروض (للروح نوافذ أخرى) للمخرج (أحمد حسن موسى) و(نساء في الحرب) للمخرج (كاظم نصّار) وفي العرض الأخير ترشّحت ازودوهي لجائزة أفضل ممثلة في مهرجان القاهرة التجريبي وهي تمثل دور ممثلة عراقيّة كبيرة لاجئة في ألمانيا، لكنها أعطيت لممثلة فلسطينية شابة رأفة بفلسطين السليبة! استطاعت الراحلة ازودوهي أن تقدم أنموذجا للممثل الزاهد العفيف والمبدع المندغم بالحياة المسرحية اختياره الصعب في بلاد يتوارى مبدعوها خارج

أسوارها.