الكندية دونا بيلي نرس.. النقد الأدبي والعرقيَّة والجندر من وجهة نظر ناقدة

ثقافة 2023/02/28
...

  تقديم وترجمة: جاكلين سلام *


يبدأ الاحتفال بتاريخ العرق الأسود طوال شهر فبراير (شباط) من كل عام في كل من كندا وأمريكا لأسباب تتعلق بتاريخ العنصرية والعبودية والعنف الذي ما يزال حاضرا في اللغة وفي الممارسات الاجتماعيّة رغم صرامة القانون ووضوحه في تجريم أيِّ سلوك يثبت أنه اعتداء سافر بالكلام أو الفعل على كرامة الإنسان بغض النظر عن لونه. كنت خارجة من مركز ثقافي مدني في مدينة سكاربرو وكان الطقس بارداً والثلج يتراكم في الساحة والكثير من الناس الذين يتزلجون. انتبهت إلى خيمة منصوبة هناك وعدد من الذين يقدمون القهوة والسندويش مجاناً. 


تقّدم رجل أسود طويل وصافحني معرّفاً عن نفسه «ديفيد سميث» ودعاني لتذوّق المأكولات المجانيّة المعروضة. شكرته وانصرفت إلى المائدة، وجدت الدعاية الإعلاميّة والبوستر. عرفتُ أنَّ السيد سميث عضو برلمان في مدينة تورنتو ويقدم خدمات لسكان المنطقة. عدتُ للحديث معه عن احتفالات المدينة بتاريخ السود، فأعطاني برنامج الاحتفالات ودعاني للحضور ثم انصرف للحديث عن الخدمات المقدمة لسكان المنطقة، وللترحيب بالآخرين من الشباب والنساء السود والبيض في الساحة. وكما هو معلوم سنويّاً يجري الاحتفال بمنجزات العرق الأسود في أمريكا وكندا، وتقام الأمسيات واللقاءات مع الكتاب والفنانين للاحتفاء والتذكر والاحتفال. 

لماذا تحتفل كندا بتاريخ العرق الأسود، وماذا يعني هذا من الناحية الاجتماعية والثقافية في مجتمع هو خليط من الثقافات الأثنية المتعددة المشارب والأعراق؟. 

أسباب الاحتفال متنوعة تاريخيّاً ولها مبرراتها في الحياة المعاصرة التي تعيشها الأقليات في امريكا الشمالية. ولكنني هنا أتوقف أمام النقد الأدبي من وجهة نظر كاتبة وصحفية سوداء كنديّة، وأترجم بعضا من أفكارها. حين نسمع أصوات الآخرين ووجهات نظرهم، قد نستطيع أن نفهم لغتهم ومطالبهم على الصعيد الإنساني العميق. لنأخذ هذا الحوار مدخلا للاحتفاء أيضا بالإبداع الأسود.

هنا حوار مع الناقدة الكنديّة دونا بيلي نرس مؤلفة كتاب نقدي ربما الأول من نوعه بعنوان «ماذا على النقد الأسود أن يفعل؟» سبق أن كتبت عنه والآن أقوم بترجمة الحوار الذي يعكس وجهات نظر ناقدة مهمة تشتغل في مجال النقد الأدبي للعرق الأسود.  

* من هي دونا بيلي نرس

دونا بيلي نرس ناقدة الأدب الأسود الكندي وتختص بالتحديد في نقد كتابات العرق الأسود وتحديدا بالكاتبات من العرق الأسود. ولها زاوية في الإذاعة الكندية العريقة سي بي سي، وتكتب في عدد من الصحف والمنابر المهمة في كندا وامريكا. وهي مؤلفة كتاب نقدي يحمل عنوان «ماذا على النقد الأسود أن يفعل» وأيضا محررة انطولوجيا لكتابات الكنديين السود بعنوان «الانبعاث». هذا الحوار نشر بتاريخ 20 مارس 2022 على ضوء مشاركتها في مهرجان فني يقام غي تورنتو «لوميناتو» وسبق أن حضره كتاب عرب أذكر منهم الشاعر الكندي اللبناني الراحل جون عصفور وأنا شخصيا - كاتبة هذه السطور- سبق وأن شاركت في مناسبات عدة خلال هذا الشهر. الأسئلة أعدت من قبل القائمين على «مهرجان لوميناتو» ونشرت في موقع المهرجان وأنشطته. - كاتبة السطور قامت بالترجمة-. 

نادي القراءة وتأثير أوبرا وينفري الملحوظ على دور النشر الأمريكية

* القصص، كتابة وقراءة تلعب دورا كبيرا في حياة النساء السود، لماذا تعد القصص مهمة؟

دونا بيلي نرس: في عام 1990 أجريت إحصائية في امريكا فوجدوا أن النساء السود، الدارسات في المعاهد يقرأنَ أكثر من قرّاء أي قطاع إثني آخر. وأنا متأكدة أنّ الاحصائيات الكنديّة ستكون مقاربة لهذا. النادي الافتراضي لـ أوبرا وينفري أنعش قطاع النشر المتهالك كله. وهذا لم يكن صدفة، كون اوبرا وينفري امرأة سوداء وخريجة معهد. الكتابة المتخيلة الشائعة وحتى روايات الرجال السود، تميل إلى إهمال تجارب النساء السود. إذاً قصص النساء السود محدودة الحضور في أماكن قليلة، تختبر وتحتفي بحيواتنا. قصص النساء السود تأتي مشبعة بالمشاعر والقوة لأنّها تمضي في توازن مع الهدف العريق للحكايات: نقل التاريخ والحكمة الثقافيَّة. 

* هل تلاحظين تقدما باتجاه النشر العادل المعتمد من قبل دور النشر الكنديَّة؟

دونا بيلي نرس: أرى أن هناك تقدما ملحوظا. الناشرون الكبار قدموا المزيد من الكتب من تأليف كتّاب سود، طبعا هذا شيء رائع. وفي الوقت نفسه، لدي تحفظ حول الواجهة العرقية في دور النشر هذه حيث لم تتغير كثيراً وتحديداً حين يصل الأمر إلى مسألة تحرير النص. نحن بحاجة إلى المزيد من المحررين السود، ولا أقصد بهذا المحررين ذوي البشرة البنية. فكرة أن الأسود والبني اللون ليس أبيض، هذا لا يعني أنهم يعيشون التجربة الثقافيَّة نفسها. أنا صحفية كنديَّة، وبالتأكيد أغلب المحررين خاصتي رجال بيض، وأكن الاحترام لمعظهم، وأشعر بالإعجاب الشديد ببعضهم. إضافة إليه، المحرر الذي اشتغل معه في مشروع تاريخ الشعب الأسود لصالح دار “هاربر كولينز” هو رجل أبيض. باتريك كرين له سمعة طيبة بكونه واحدا من أدق المحررين في البلد. طبيعي، أنا ممتنة لهذا.أقول هذا، وما زال يثير حفيظتي أن دور النشر الكبرى ما تزال تنظر إلى مسألة “المحرر الأسود” بأنّها فكرة جيدة ولكن ليست ضرورية. وبالعكس من ذلك، المحررون السود ضرورة مهمة. لسبب واحد، أنَّ المحرر الأبيض يحتاج عادة من الكاتب إلى شروحات كثيرة كي يفهم قضايا السود، ومحزن أن يقللوا من شأن هذا الفارق البسيط. وليس مدهشا أن تظهر أحيانا مسألة تضارب المصالح هنا. أخبرني كاتب أسود مؤخرا كيف أن محرر نصّه، الرجل الأبيض غضب حين رفض الكاتب اقتراحه بتغيير أن تكون إحدى الشخصيات أكثر ودية ولطفا مع الناس البيض. 

حين نأتي على مسألة العرق، قد يكون المحرر الأبيض غير قادر على طرح السؤال الصحيح مقارنة بالمحرر الأسود الجيد. تلك الأسئلة التي قد تقود النص المكتوب إلى نقطة أكثر غنى أو تعمل على تطوير القصة باتجاه أفضل. في النهاية، غياب المحرر الأسود يطرح مسألة شائكة بخصوص “الملائم اجتماعيا” ولكن هل من المناسب أن يتم تحرير كل كتب السود من قبل المحررين البيض؟ كيف لو كان الأمر بالعكس من هذا! 

* ما هي روايتك المفضلة؟ 

دونا بيلي نرس: رواية توني موريسون “أغنية سليمان”... نواة القصة متضمنة بتقديم مختصر لأنشودة غنتها امرأة عجوز سوداء في بداية الرواية. تقدّم موريسون في روايتها خليط الأسطورة مع السحر تكشف لنا غنى قصة الأفريقي الأمريكي التي ما يزال يحاول المجتمع الأبيض أن يخفيها. وهي تنصحنا بأن نستمع بعمق وتقدير إلى موسيقانا ونحلل حكاياتنا. وتشجعنا أيضا على العودة إلى الماضي لنقترب أكثر من افريقيا ماديا وعاطفيا ونفسيا كي ننهل من مصادر تلك الحكمة التي نحتاجها كي نعيش. 


المهرجان فرصة لإيصال الأصوات المهمّشة

* ما هو الدور الذي تريدين أن تلعبه مهرجانات الفنون مثل مهرجان لوميناتو من ناحية بلورة الثقافة الكندية وتقديم أصوات الجاليات التي ليس صوتها مسموعا كما يجب؟. 

دونا بيلي نرس: عملي مع مهرجان لوميناتو خلق لدي فكرة مقربة عن مدى أهمية مهرجانات الفنون في دعم الذين لا فرصة لهم لإيصال أصواتهم. هذا المهرجان لا يقتصر على تقديم أصوات نساء سود من العالم، بل يقدم أيضا أصواتاً مهمة في الجالية السوداء الكنديَّة.لوميناتو، مهرجان يحتفي بالنساء السود ويثمن تجربتهن وفي الوقت نفسه ينقل هذه التجربة إلى جمهور عريض متنوع. وهذه ليس مسألة عرضيّة، بل خطوات صادقة وجديّة والتي ستؤثر إيجابيا على هذا العالم الذي نقيم فيه.

*

وكان لكاتبة هذه السطور مشاركات عدة في مناسبات في مثل هذا الشهر (فبراير) لتقوية روابط الاندماج والاستقرار في المجتمع الكندي الذي يعد من أكثر دول العالم تعددية وتقبّلا للآخر المختلف. شاركت جاكلين سلام في إلقاء كلمات تخص تجربة المرأة وتحفيزها على التطور وتمكينها من الوصول إلى تحقيق حلمها كأمٍّ وامرأة مستقلة.


2

التجربة الميدانيَّة في كندا

مفارقات اللغة وعنصريَّة اللون 

كي نقترب أكثر من إشكالية اللغة العنصريَّة ومفارقات اللون، أذكر بعض الأمثلة التي اختبرتها في عملي والمحيط الاجتماعي الكندي.كنت أتحدث مع صديقة سوداء كنديَّة من جامايكا، مثقفة وقارئة جيدة. كنت أروي موقفا حدث معي

أنا: كنت أتعامل مع تلك صديقة - سين- بقلب أبيض ويد بيضاء.قاطعتني صديقتي ومدت يدها أمامي وقالت: هذه يدي الممدودة، سوداء. ثم صمتت وهي تنظر في وجهي. ارتبكت وحاولت أن أشرح المعنى وأن هذا فقط مثل شعبي. 

قالت: أفهمك، ولكن المحمول يدل على أن الأبيض نظيف ونقي، والأسود متسخ ويحمل شراً. لقد تعبنا من هذه اللغة البيضاء. ثم أضافت «جاكلين، أنت لستِ بيضاء. أنت هنا من الأقلية الملوّنة، ولست من العرق الأبيض!  ابتسمت وصدمت، إذ كنتُ الأكثر بياضاً في أفراد أسرتي السورية.

كان ذلك منذ سنوات بعيدة وكنت أشارك حينها في مهرجان للاحتفال بتاريخ السود الذي يصادف في شهر فبراير من كل عام حيث تقام المهرجانات والأمسيات والحوارات مع السود الذين يكتبون أو يشتغلون في الحقل الاجتماعي أو السياسي الكندي.

*

في موقف آخر، وليس منذ زمن بعيد، بل حين كانت قضية الرجل الأسود الأمريكي جورج فلويد في الإعلام الأمريكي والدولي حين قتله رجل البوليس الأبيض وهو يضع ساقه فوق رقبة فلويد لما يزيد عن 9 دقائق أدت إلى موته. تابعت المحاكمة كاملة معروضة في التلفزيون الأمريكي. 

قلت لصديقتي: أفكر أن أكتب قصة عن هذا الموضوع من وجهة نظر أم الضحية - والدة جورج فلويد وهي تشاهد ما حدث لابنها.

أجابت صديقتي: احترم رغبتك ولكن ليس بإمكانك التعبير عن مشكلات عرق لستِ منه. وتعاطفك الإنساني لا يكفي لكتابة مثل هذه الحالات التي يجب أن تكتب بأقلام الكاتبات السود... 

وكانت تلك وقفة أخرى تحتاج إلى تنفّس عميق منّي وحديث طويل بين امرأتين من عرقين ولغتين مختلفين.  

العبرة أنّنا في التواصل مع أبناء العرق الآخر، نكتشف تحيّز وعنصريّة مفاهيمنا الباطنيّة المحمولة في لغتنا اليوميّة. وكلما خضنا التجربة واستمعنا إلى الآخر بصوته (هو وهي) نتعلّم ما لم نقرؤه في ثقافتنا العربية التي ننهل منها. 

وإذا عدنا للروايات الكندية المرموقة والتي حازت على جوائز مهمة في كندا، أذكر روايات الكاتب الكندي «لورانس هيل» وروايته الشهيرة التي صارت فيلما بعنوان «أميناتا» والرواية كانت بعنوان «كتاب الزنوج» وحصل أن غضب بعض السود من كلمة «الزنوج» الواردة في الكتاب والتي ترتبط بمفهوم العبوديَّة. ومن الروايات المهمة لهذا الكاتب أيضا، رواية بعنوان «ليس قانونيا» وتركز على ثيمة اللاجئ غير القانوني في رحلة اللجوء إلى الغرب والمعاناة التي يخوضها. ولذلك ربما نفهم ما تريد الناقدة السوداء حين تحكي عن طبيعة العرق

الأسود. 

* شاعرة، صحفيَّة مترجمة سوريَّة كنديَّة