غائب طعمة فرمان {1927 - 1990}

ثقافة 2023/02/28
...

اعداد: حسن جوان


قاصٌ وروائيٌّ ومترجمٌ، ولد في العام 1927 في أحياء بغداد القديمة – محلة المربعة- في بغداد، وأنهى دراسته الابتدائيَّة والثانويَّة فيها، أصيب بالتدرن في وقت مبكر، وينحدرُ غائب من أسرة فقيرة كانت تسكن في أحياء بغداد الشعبيَّة القديمة، وكان والده أحد سائقي السيارات الأوائل في بغداد، وكان يحدثه في طفولته عن انطباعاته ورحلاته، ما أدى إلى تعلقه بالماضي والذكريات، فصورها في ما بعد في روايته «المخاض».


 مصر 

سافر غائب إلى القاهرة عام 1947 لغرض الدراسة في كلية الآداب رغم فقر والده، الذي كان يرسل له خمسة دنانير بين فترة وأخرى. واستفاد فرمان من حياته في مصر، فتعرف على نجيب محفوظ وحضر جلساته في مقهى الأوبرا، وسلامة موسى وطه حسين ونشر بعض قصصه القصيرة ومقالاته الأولى في المجلات المصرية مثل «الرسالة» و»الثقافة» و»الثقافة الوطنية» وغيرها.

وتعكس قصص غائب ومقالاته الأولى مفاهيمه وأفكاره عن مختلف قضايا الحياة الاجتماعية والأدبية، متجنبا القضايا السياسية المباشرة.

وعند عودته إلى بلده العراق بعد ثلاثة أعوام وبضعة شهور من إقامته في مصر، عمل غائب في صحيفة «الأهالي» لسان حال الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة الديمقراطي الليبرالي العراقي المعروف كامل الجادرجي. واكتسب غائب من عمله في هذه الصحيفة خبرة كبيرة، تجسدت في ما بعد في نتاجاته الروائية، وبخاصة في رواية «خمسة أصوات».

صوّر غائب في هذه الرواية حياة المثقفين العراقيين في الخمسينات من خلال خمسة أبطال من أمزجة مختلفة واهتمامات أدبية واجتماعية متنوعة. ولدى قراءة هذه الرواية يطلّع القارئ على الحياة الأدبية العراقية ومفاهيمها في الخمسينات.


هجرة وإسقاط الجنسيَّة

في العام 1954 اضطر غائب إلى مغادرة العراق، متجها نحو لبنان وسوريا، حيث شارك في مؤتمر الأدباء العرب، الذي عُقد في مدينة بلودان وانتخب عضوا في لجنة «الأدب الجديد»، التي أصدرت بيانها حول ضرورة التوفيق بين اللغة العربية الفصحى والعامية في النتاج الأدبي.

ثم توجه غائب إلى القاهرة مرة ثانية ومكث فيها فترة قصيرة، أصدر فيها كتابه «الحكم الأسود في العراق» عام 1957 المكرّس لممارسات النظام الملكي العراقي. وشارك غائب مع الناقد المصري محمود أمين العالم في كتابة مقدمة طويلة لمجموعة قصص قصيرة صدرت عام 1956 بعنوان «قصص واقعية من العالم العربي»، تضمنت هذه المقدمة أهم أفكار غائب ومفاهيمه عن الواقعية الجديدة في الأدب، التي لا تختلف في حقيقة الأمر عن الواقعية الاشتراكية. وأسقطت عن غائب الجنسية عندما كان متجها إلى بوخارست للمشاركة في مهرجان الشبيبة، فاضطر إلى السفر إلى جمهورية الصين الشعبية، حيث أخذ يعمل منذ ذلك الحين في وكالة أنباء الصين الجديدة.

وبعد ثورة 14 تموز 1958، التي أطاحت بالنظام الملكي، عاد غائب إلى العراق، وعمل في الصحافة لفترة قصيرة، إلا أنه غادر بعد سنتين أو أكثر بقليل إلى الاتحاد السوفييتي، حيث أقام فيه ثلاثين عاما حتى رحيله الأبدي.

وأُسقطت الجنسية عنه مرة أخرى بعد انقلاب 8 شباط 1963 العسكري، الذي أطاح بحكومة الزعيم عبدالكريم قاسم. ومن الجدير بالذكر أنه لم يكن سياسيا نشطا، ولم يقم بأعمال تنظيمية مغامرة أو صدامية عنيفة، ولم تكن صحته لتساعده عل ذلك فقد عانى من مرض خبيث، إلا أنه كان قريبا جدا من أوساط الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي بالذات الذي رعاه واهتم بأدبه.


النخلة والجيران

في الاتحاد السوفييتي عمل غائب في مجال الإبداع والترجمة، فانتقل من الأساليب الواقعية البسيطة والبدائية، التي انعكست في مجموعتيه «حصيد الرحى» 1954 و»مولود آخر»، 1959 إلى الطرق الفنية الناضجة المتجسدة في روايته الأولى ورائعة الأدب العراقي «النخله والجيران» 1966، التي عدّها النقاد أول رواية عراقية فنية ناضجة تتوفر فيها مقومات الرواية الحديثة مثل الحوار والحوار الداخلي أو المناجاة والوصف الخارجي والداخلي للشخصيات والاهتمام بالبطل الروائي الخاص، الذي يجب أن يعبر عن ملامح العصر، إضافة إلى الزمان والمكان وتغييراتهما وتقاطعاتهما.

ونُقلت رواية «النخلة والجيران» إلى المسرح من قبل فرقة المسرح الفني الحديث، وحصلت على شهرة واسعة ليس في أوساط المثقفين فحسب، بل مختلف فئات المجتمع.

 وقد اهتم غائب برواياته الثمان بموضوعات، مثل الغربة والحنين إلى الوطن والعودة إلى الجذور والتراث، أو ما يسمى بالنوستالجيا وحرية المرأة، إلا أن كل ذلك كان يحدث بطريقة غيرمباشرة كما في قصصه القصيرة الأولى.

وعلى الرغم من أن فرمان عاش فترة طويلة في الاتحاد السوفييتي وروسيا، إلا أنه لم يتناول في أدبه موضوعات الحياة السوفييتية، التي كان يعرفها بشكل جيد بسبب عمله هناك وزواجه من امرأة روسية. ويبدو لنا أن سبب ذلك يكمن في عدم رغبته في إثارة مثل هذه القضايا الحساسة والخطيرة، التي كان يمكن ان تجلب له الكثير من المتاعب على مختلف الأصعدة.

 وقد نُقلت روايته «خمسة أصوات» إلى السينما، وتصلح كل رواياته الأخرى للأعمال السينمائية والمسرحية، كونها تؤرخ لحقبات من تاريخ العراق وتتناول مختلف شرائح مجتمعه. وكذلك تمَّ اخرجها الفنان محمود أبو العباس مسرحيا بذات عنوانها.

إضافة إلى أعماله القصصية والروائية، ترجم غائب إلى العربية مجموعة كبيرة من القصص والروايات الروسية والسوفييتية لكتاب روسيا الكبار مثل تولستوي ودوستوييفسكي وبوشكين. وقد أعانته معرفته الجيدة للغة الإنجليزية في الاطلاع على أعمال فوكنر وجويس وميلر وهمنغواي ايضا.


قيل فيه

قال عبد الرحمن منيف عن غربة غائب «لا أعتقد أن كاتبًا عراقيًا كتب عنها كما كتب غائب، كتب عنها من الداخل في جميع الفصول وفي كل الأوقات، وربما إذا أردنا أن نعود للتعرف على أواخر الأربعينات والخمسينات، لا بدَّ أن نعود إلى ما كتبه غائب».

وكتبت د. يمنى العيد عن رواية المركب «المركب وسيلة عبور وعنوان مرحلة للمدينة التي غادرها غائب ولم يعد إليها، المركب لا تحكي الماضي بل الحاضر المكتظ بالمعاناة التي تدفع راكبيه إلى الالتفات إلى ماضيهم بحسرة».

ونشر محمد دكروب ذكرياته مع غائب طعمة فرمان، وكذلك فعل سعد الله ونوس.


أعماله:

حصاد الرحى- مجموعة قصص/ 1954 - مولود آخر- مجموعة قصص  1955/ النخلة والجيران- رواية 1966/ خمسة أصوات- رواية  1967/ المخاض- رواية 1973/ القربان- رواية 1975/ ظلال على النافذة - رواية/ 1979- آلام السيد معروف/ رواية / 1980- المرتجى والمؤجل/ رواية/ 1986 - المركب/ رواية

/ 1989.


ترجماته

ترجم نحو ثلاثين كتاباً ونال جائزة رفيعة على جهده في هذا الجانب. ومن ترجماته: أعمال تورجنيف في خمسة مجلدات، القوزاق لتوليستوي، مجموعة قصص لدستوييفسكي، مجموعة قصص لغوركي، المعلم الأول لايتماتوف، مجموعة أعمال بوشكين وغيرها.


وفاته

يجدر ذكره أن غائب ذهب إلى العراق في زيارة قصيرة وبقيَّ فيه فترة قصيرة عام 1974 وهي المرة الأخيرة التي التقى فيها ذويه، إلا أن أخته زارته قبل أحداث الخليج. وكان سعيدا بوجودها إلى جانبه، وقد عبّر من خلال حديث هاتفي لإحدى الصحف، التي أجرت معه الحوار في الدنمارك عن فرحته بزيارتها له، لكنه المرض اشتدّ عليه بعد فترة قصيرة، وتوفي في المستشفى. 

وهكذا رحل الكاتب الروائي الكبير غائب طعمة فرمان في يوم السبت الثامن عشر من آب عام 1990 في موسكو العاصمة، ودفن فيها. 


مقتطع من رواية «النخلة والجيران»

«كانت مسترسلة في حلمها، حين خُيّل إليها أنها تسمع طرقاً على الباب. فتحت عينيها وحملقت في سحابة من الظلمة نحو الباب البعيد على يسارها. انصتت وهي مسترخية لمّا تزل. كان الباب يُطرق فعلاً. ودهشت. من النادر أن يطرق إنسان بابها في الليل. وكان الطرق واضحاً ردّ عليه قلبها بدقات سريعة. فنهضت وحملت الفانوس إلى الباب. وتريثت حتى سمعت الطرق مرة أخرى، ونداء غريباً.


سليمة خاتون!

فتحت فمها خلف الباب، استغراباً وخوفاً، وارتبكت لا تعرف ماذا تقول له. من الذي ينعم عليها بهذا اللقب، ويأتيها في مثل هذا الوقت؟ كان القادم الجديد عنوداً، واصل الطرق ومناداتها حتى خافت أن يسمع الجيران، قالت بصوت ضعيف:

- عيني.. منو أنت؟

-سليمة خاتون.. آني مصطفى!

مصطفى؟ حاولت أن تتذكر، بدا الاسم مألوفاً، لكنها لم تستطع أن تعرفه بالضبط. والآن لا محيص من فتح الباب. ورأت أزاءها شبح رجل طويل القامة بادرها بالقول:

- الله يمسّيج بالخير

- هلا عيني هلا

رفعت الفانوس قليلاً فكشف الضوء النحاسي عن هيأة الرجل كلها. افندي نحيل فوق رأسه الصغير سدارة، وفي يده مسبحة. لم يتركها تفكر، بل عاجلها بالسؤال عن صحتها في ملاطفة، وكأنما يعرفها منذ زمن بعيد. ثم قال معتذراً:

- سليمة خاتون.. ترى آني مقصّر!

- مقصّر؟ قالت في صوت هامس

-إي والله مقصر، لكن متعرفين شكد متألم. واحد اش يتذكر؟ اللسان اللي مثل الشكر، لو القلب اللي مثل الجمّار؟ الله يرحمك أبو حسين برحمته الواسعة.

نظرت في عينيه الصغيرتين، وحاولت أن تتذكره. وكأنه حدس ذلك فهزّ رأسه في لوعة. 

اذكر لما جنت اجي ويه عليوي.. شلون مداراة؟  ويوم الأربعين؟

الآن تذكرت، ولولا الحياء لسألت.. عيني مو انت مصطفى الدلال؟

- تصدكين..بداحي باب خيبر؟ كلما أمر من البيت قلبي ينعصر. ما اكدر أعاين عالباب. 

-الله يسلم قلبك. قالت في شيء من الاطمئنان. وارتخت يدها وهي تحمل الفانوس، فحوّلته إلى اليد الأخرى. ومع تغيّر الضوء رأت رقبته الطويلة الهزيلة وحنجرته الناتئة. وعاد الرجل يقول:

- واحد اش ينسى؟ وهزّ رأسه ثانية، واطرق صامتاً. فقالت له منفعة بمجاملتها:

- تجي نكعد شوية؟ .. انت موغريب

-خمس دقايق- كانت على لسانه- تركت أصدقائي بالكهوة، وكلت أمر على أم حسين. 

صحبته عبر الحوش، ووضعت الفانوس على التنور، وفرشت له مندراً على ظهر الجاون فجلس، وبركت هي على بعد خطوات منه، ملفوفة بعباءتها الصوفية. وبعد أن استقر في جلسته سألها:

- وصحتج شلونها؟

- الله يسلم صحتك.

- وحسين شلونه.. بعده بالمدرسة؟

- من زمان بطّل.

- المدرسة متوكّل خبز

- ينرادلها جيس جبير

- والخبز شلونه؟

- شالع قلبي

- اكيد.. صحيح.

وصمت مديراً بصره في أرجاء البيت. كان الظلام يكتنفه من كل جانب. إلا أنه قال:

- البيت بعده مثل ما كان!

- شيتغيّر منّه؟

- لا، قصدي تعمير.. ترميم!

- وإلويش.. وإلمن؟ اشو حسين كاعد بغرفة تضم عيلة، وهاي الحجرة فارغة..واش...

وامسكت لسانها قبل أن تتم جملتها مخافة أن تقول شيئا غير لائق. وانكمشت في صمتها. وقال مصطفى مؤيداً: 

ومن يستر يسوي شي والدنيا حرب؟ وكل شي بالنار.

قالت:

هي حرب لو  بلاء أسود

قال وهو يسبح بمسبحته

الحرب بلاء من الله

قالت باستسلامها الموروث:

إرادته!»