شُعراء الممنُوعَات

ثقافة 2023/03/01
...

مهند الكوفي



قبل سنوات، كنتُ مع ليزا على شاطئ نهر الفولغا جنوب روسيا، ليزا قارئة نهمة للأدب الكلاسيكي الروسي وأدب أمريكا اللاتينية.  ما قرأته من ترجمة سامي الدروبي كان كافياً لمشاركة النقاش معها. 

أما قرأت “ليالي مصرية” لبوشكن؟ نطت ليزا فوق رصيف الشاطئ متسائلةً.! ما رأيك في أعمال بونين؟ ما عرفته عن بطل رواية “الفقراء” لدستوفسكي؟ بينما كنت أتساءل في نفسي: كيف نُشرت هذه الكُتب رغم رقابة الاتحاد السوفيتي؟ كيف تسلل نتاجهم عبر الحدود؟ هل الأدب الكلاسيكي صنيعة المترجمين؟


 خبأتُ كفَّها في كفّي لتسارع برودة الطقس، وأنا أتساءل: كيف نُشرت هذه الأعمال رغم رقابة الحكومة السوفيتية على الأدب؟ قالت: كارل بروفر.! قلتُ: لم أسمع عنه، حتى اسمه ليس روسيا.! فأجابتْ: نعم، إنه أمريكيٌّ. في العام 1956 جاءَ بروفر إلى هنا وتعلمَ اللغة الروسيّة في سن الثالثة والعشرين، اكتسب الدكتوراه في علم اللغة وآدابها، وناقش أطروحته عن رواية “الأرواح الميتة” لغوغول. عاش وزوجه إلينديا في الاتحاد السوفيتي، خلال مدة بقائه التقيا بالكاتبة ناديجدا ماندلستم ويوسف برودسكي وألكسندر إيفيتش وإلينا بولجاكفا زوجة الكاتب ميخائيل بولجاكف التي أعطتْ لبروفر مخطوطة مسرحية “ شقّة زويكا” لميخائيل، بعد ثلاث سنوات نشرها بروفر بعد رجوعِه إلى الولايات المتحدة الأميركية في نسختين تجريبيتين، على إثرها أسس بروفر دار “أرديس” للنشر في بلده. راحَ يجمع مخطوطات الأدب الروسيّ على شَكل مخطوطات في كُلِّ عام وينشرها في أرديس. إن نهضة بروفر في طباعة الأدب المحظور انتشرت في الوسط الأدبي مثل -النار في الهشيم- مما جعل الأدباء الروس يبادرون في إرسال مخطوطاتهم عبر المسافرين غير الشرعيين إلى الولايات المتحدة الأميركية، لئلا يكشفهم أمن المحظورات آنذاك. أول من بادر بإرسال مخطوطته الروائية فاضل اسكندر “ساندرا من تشيغما” و “الأرانب والثعابين”. ورواية “منزل بوشكن” لأندريه بيتف. ورواية “إسكندرنا” لسيرجي دوفلاتف. و “كتاب حديدي غير مرئي” و”قطعة ذهبية” و “حرق” و “منظر طبيعي من الورق” لفاسيلي أكسينف. نشرت مجموعات من قصائد يوسف برودسكي وشعراء معاصرين، لاسيما مجموعة من كُتاب أوائل القرن العشرين الذين لم ينشروا أعمالهم في الاتحاد السوفيتي، -على سبيل المثال- قصائد آنا أخماتفا ومارينا تسفيتيفا وأوسيب ماندلستام، و”الحفرة” لأندري بلاتونف و “الفرسان” لإسحاق بابل. نشرت الدار ما يزيد عن 500 كتاب لكل كتاب عشر نسخ. 

إنَّ ما فعلَهُ بروفر للأدب الروسي يمكن مُقارنتُهُ باختراع يوهان جوتنبورغ؛ لأنه أعاد له المطبعة! من خلال نشرِ أعماله باللغتين الروسية والإنجليزية التي لم يقدرْ لها أن تُصبح في متناول العالم. أنقذ العديد من الكُتَّب والشعراء الروس من النسيان والتشويه واليأس. علاوةً على ذلك، فقد غيَّر مناخ الأدب في روسيا. حينها كان الكُتَّاب يمارسون الكتابة عبر “الساميزدات” نوع من الكتابة والنشر مارسه الكُتَّاب المتمردون في الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية فكان تحدياً للرقابة على الكتابات المعارضة. حينها تُكتب النصوص الممنوعة باليد وتُمرر من قارئ إلى آخر. وقد كانت هذه الطريقة محفوفة بالخطر، وكان من يُدان بنشر أو تداول مثل هذه المنشورات يواجه عقوبة الموت.! من شعراء الممنوعات: برودسكي، فلاديمير فيسوتسكي، وبيلا أحمدولينا، وأندري فوزنيسينسكي، ويوز أليشكوفسكي وأندري بيتوف وغيرهم. منعت أرديس بعد علم الأمن الرقابي على الكتب المحظورة في الاتحاد السوفيتي ومنع بروفر من دخول الأراضي السوفيتية. لم تكن أرديس دار النشر الوحيدة في نيويورك التي طبعت الأدب الروسي. في عام 1952، أسس الدبلوماسي جورج كينان دار تشيخف للنشر. وإرسلتِ الكتب المطبوعة هناك سراً، حسب ميثاق دار النشر. وكان جزءاً من “النضال الأيديولوجي ضد الشيوعية “. نشر جورج كينان أعمال الكتاب المهاجرين مثل: مارينا تسفيتيفا، إيفان بونين، مارك ألدانف، فلاديمير نابوكف.