والت ويتمان وضبط الثقة الإبداعيَّة

ثقافة 2023/03/01
...

ماريا بوبوفا


ترجمة: رزان الحسيني


“أنا لا أزعجُ روحي بأن تبرّئ نفسها أو تكون مفهومة”.


“أعِد فحص كلَّ ما قيل لك في المدرسة والكنيسة أو في أي كتاب، وارفض كل ما يهينُ روحك”  هذا ما كتبهُ والت ويتمان في مقدمةِ كتابه “أوراق العشب”، حيث يقدّم نصيحتهُ الخالدة في عيشِ حياةٍ مُرضية نابضة بالحيوية.


حين نشر “ويتمان” رائعته عام 1855م، قوبِلت باستهانة تخللتها دفقاتٍ من النقدِ الحاد، من الصعب تخيّل كمِّ الأهانة التي لحقت بروح الشاعر الشاب جراء استقبالٍ كهذا، وكيف عانىٰ ليتجاهله ويستمرّ في الكتابة. إن ما شحذ همّته خلال تلك الموجة المتناوبة من السلبيّة هي رسالة تقدير استثنائية من رالف والدو إيمرسون، “صانع الذائقة” الأكثر احتراماً في عصره، وبطل ويتمان الأكبر، والذي ألهم الشاعر “أوراق العشب” من خلال إحدىٰ مقالاته. ارتدى الشاعر مدح إيمرسون “الأشياء الفذّة تُقال بشكلٍ فذّ” مثل درع، حرفياً تقريباً، فقد حمل الرسالة مطويّةً في جيبِ سترته فوق قلبه، وكان يقرأها بانتظام لرفقتهِ وأحبّاءه.

إن الأمر أسهل بالتأكيد، رغم أنه ليس سهلاً، أن تتجاهل ما يُهين روح المرء من قِبل ناقدٍ لم تُكسب ثقته، “لا تأخذ رأي من لا تحترم” هذا ما اقترحته جينين ونترسون في قواعدها العشر الحكيمة في الكتابة. ولكن أن نتجاهل إهانة الروح من شخصٍ نحترمه -أو الأسوأ، شخص نحبّه- يتطلّب الأمر قوة روحيّة خارقة. كيف نتمسك بقناعتنا ورؤيتنا سواء كانت ابتداعيّة أو وجوديّة، بصلابةٍ واستقامةٍ، حين يتم تحدّيها ولومها من قبلِ شخصٍ نعتبرهُ ذا رِفعةٍ ذهنيّة عاليّة ورقِّةً في القلب؟.

صاغ ويتمان ذلك بعنايةٍ فائقة في مقابلتهِ مع إيمرسون نفسه.

في ظهيرة منعشة من فبراير/شباط عام 1860م، بعد خمس سنوات من نشرِ أوراق العشب، تجوّل الرجلان لساعتين علىٰ امتداد بوسطن كومون. كانا قد أصبحا صديقيّن وشكّلا علاقةً مهذّبة وصادقة، تمثّل نموذج إيمرسن عن الصداقة: الصديق هو من يمكنني أن أكون معهُ صريحاً. في ذلك اليوم الشتويّ، وجد ويتمان أن إيمرسون “في ذروته، بصيراً وجذّاباً جسدياً ومعنوياً، ومسلّحاً من كلِّ جانب، وحين يقرر، فهو يقبض على العاطفة كما يقبض علىٰ المنطق. حين وصل نقدهِ، عرَف ويتمان أنّه نبَع من ذلك المصدر بالذات، من الصفة الشخصيّة التي يحترمها بعمق، ويبجّلها حتّىٰ. وبدلاً من أن يتشظّى بالشكّ الذاتي، كان ويتمان قادراً على البقاء راسخاً برؤيته ومبادئه. يكتبُ في Specimen Days (مكتبة عامة), المجاميع المثمرة بلا نهائية من المقطوعات النثرية ومقدمات اليوميّات، والتي منحتنا ويتمان كحكمة الأشجار، وقوّة الموسيقى، ولبّ السعادة، ومعنى الفن، والتفاؤل كقوّة للمقاومة، يقول:

في أثناء تلك الساعتين، كان هو المتكلّم وأنا المستمع، كان جدالاً أولاً, ثم بحثاً, ثم مراجعة, ثم الهجوم والتأكّد. (مثل ترتيب سلك الجيش، الدفاع، الفرسان، المُشاة)، وكل ما يُمكن أن يقال ضد هذا الجزء “أبناء آدم”، وهو الأهم في بناء قصائدي. كان ذلك الخطاب أغلى من الذهب لديّ، حيث أن كل نقطة من حديث إيرنستون كانت قاطعةً، ما من قرارٍ قاضٍ أكثر كمالاً وإقناعاً، ولم يكن بمقدوري سماع النقاط بشكلٍ أفضل من هذا، ثم الشعور بأعماق روحي بالقناعة الجليّة والبيّنة لأن أعصي الجميع وأواصل بطريقتي الخاصّة. “ماذا سيبقى لديك للقول إذاً لأشياء مثل هذه؟” يقول إيرنستون، ويتوقف في الختام. “حين لا أستطيع الردّ عليهم مطلقاً، لا يمكنني الشعور برسوخٍ أكثر قط, لتمّسكي بنظريّتي الخاصة، وتجسيدها” ذلك ما أجبت بصراحة. بعد ذلك ذهبنا وتناولنا عشاءً جيداً في البيت الأميركي، ومذلك الحين لم أتردد بعد ولم تراودني الهواجس أبداً (كما اعترفت مرتين أو ثلاث سابقاً).

ينصح إيمرسون، القديس الحامي للثقة بالنفس: “ثق بنفسك، كل القلوب تميل أمام ذلك الوتر الصلب”. أقدّر بلا شك هذا التوجيه الروحيّ. يذهب عالم الطبيعة الأكبر، جون بوروز، وهو كاتب سيرة ويتمان الأول والأبرز، أبعد بدراسته عن شعريّته الرفيعة:  

كان ويتمان بنواحٍ عديدة، وبشكلٍ لا واعٍ لنفسه، الرجل الذي استدعاه إيمرسون وصلّى من أجله، الرجل المعوّل على نفسهِ تماماً، الذي يجد أن يومه وأرضه كافيان له، والذي لا رغبة له بأن يكون يونانياً، أو إيطالياً، أو إنكليزياً، غير أن يكون نفسه فحسب، والتي يجب ألّا تئنّ ولا تعتذر، ولا ترتحل، يجب ألّا تتنازل، أو تستنكر, أو تقترض، والتي تستطيع أن تبصر -من خلال تنكّرات عصرنا وانحطاطاتهِ- ملامح الآلهة نفسها التي سلبت لب الشعراء القدامى.

لم يستبعد ويتمان النقد بشكلٍ كامل، ولكنّه قام بفصل القمحِ عن القشر بغربال الثقة والرؤية الإبداعية الراسخة. ولكنّه اعتقد بأن يمكن للنقد أن يكون أكثر قيمةً من المديح. في أوراق العشب، كتب تحت عنوان “دروس أقوى”:

هل تعلّمت دروساً من الذين قدّروك وكانوا عطوفين معك، ووقفوا بجانبك فحسب؟ ألم تتعلم من الذين رفضوك وسلّحوا أنفسهم ضدّك؟ أو من الذين احتقروك، ونازعوا الدرب معك؟

إن نوع النقد الذي رفضه ويتمان فوراً هو النقد الصادر من النقّاد المحترفين, أولئك الذين يهدفون إلى تحطيم فن الكاتب بدل تطويره، لأن أحكامهم تستند إلى معايير عصرهم، وبالتالي يميلون لاستهجان أي قطعٍ حادٍّ بالتقاليد. وهؤلاء النقّاد يميلون أيضاّ لوصمِ أي عملٍ أصيلٍ بالسيئ، ثم يجسّدون ما قاله ويستن هيو أودن في ملاحظته الثاقبة: لا يمكن للمرء مراجعةِ كتابٍ ما دون أن يتباهى.

لاحظ بوروز ذلك في سيرته عن ويتمان، والتي كُتبت في حقبةٍ ما زال الشاعر فيها مرفوضاً أكثر من أن يُحتفى به: لا توجد صفحات في التاريخ أكثر قيمة وقوّة من سيرة الرجال الذين واجهوا اللاشعبية والإنكار والكره والسخرية والانتقاص، تضحيةً لصوتهم الداخلي، ولم يفقدوا مع ذلك، الشجاعة وحسن الخلق قط.

تأسس شعر ويتمان على أساسٍ لا يتزعزع من رؤيته الروحيّة والإبداعية، قاده ذلك في النهاية إلى قمة البانتون للأدب الإنكليزي. تعد أوراق العشب من أكثر الأعمال الشعريّة المحبوبة، والتي أثّرت في عدة أجيالٍ من الكتّاب وعززت كبد الحياة الاعتيادية خلال أسوأ الأزمات الوجوديّة، هذه هي قوّة الحقيقة الشعرية الموجّهة بثباتٍ صارم بالثقة والرؤية.

استكمل مع ديكارت في مفهومهِ حول الفرق الجوهريّ بين الثقة والغرور، وبروس لي عن قوّة الإرادة والثقة بالنفس، وبعض النصائح الجيّدة من الكتّاب العظماء عن كيفية تجاوز النقد، ثم راجع ويتمان في الإبداعية، الديمقراطية، ونصيحته للشباب، ومفهومه المباشر عن السعادة.