احتضار الروح البشريَّة في قصص أنطون تشيخوف

ثقافة 2023/03/01
...

أويس الحبش



في أعمال القرن الثامن عشر الأدبيَّة تجلّت مساعي أنطون تشيخوف لاكتشاف الحياة ليس فقط في ظواهرها العامة، ولكن في تعابيرها الخاصة من جوانبها اليومية. كتب تشيخوف عن المثقفين وأوهامهم وارتباكاتهم، حول تناقض أفكارهم عن الحياة. وقد تجلى ذلك بوضوح في ثلاثية “الرجل في حالة”، “عنب الثعلب”، “عن الحب” فأبطالها صنعوا عالمهم الخاص وعاشوا به.
 ففي قصة “الرجل في حالة” قام المدرس “بيليكوف” بعبارته الشهيرة “بغضّ النظر عما يحدث” بتقييد حياته عن طريق اتباع التعليمات والأوامر بحذافيرها، و”إيفان إيفانوفيتش جمايليسكي” في قصة “عنب الثعلب” قد أخضع حياته لفكرة واحدة وهي الامتلاك، وحلمه بشراء وإدارة مزرعة للعنب. 

أما بطلنا العاشق “إيونيتش” الذي أحب فتاة من القرية، فلم يستطع أن يتجنب أوهامه، وانهار حبه من تلقاء نفسه. كل من هؤلاء الأبطال كان قد أخضع حياته لروتين ضيق، كما لو أنه أبقى عليها في علبة. 

في قصة “الرجل في حالة” عبّر عن صورة معلم اللغة اليونانية بيليكوف بوصف حالته بأنَّ كل ما يحيط به من أثاث المنزل حتى ساعة يده كانت تحت غطاءٍ أو حماية، فتراه هو نفسه حتى في الطقس الحار يرتدي معطفاً طويلاً وحذاءً مطرياً ويحمل مظلته ويغطي وجهه بنظارات داكنة ويضع صوفاً قطنياً في أذنيه، فانغلاقه ما هو إلا وسيلة للاختباء من الحياة والابتعاد عن الحاجة إلى اتخاذ قرار للقيام بأي شيء.

يكمل تشيخوف وصف بيليكوف بأنه ضعيف، خجول ووحيد، بالإضافة إلى ذلك، خائف لحد مرضي، هذا هو السبب في أنه يعلم اللغة اليونانية القديمة التي لا يتحدث بها أحد، واتباعه المراسيم والتعليمات في أدق تفاصيل حياته، ومع ذلك، فإنَّ هذا “الرجل في حالة” بطريقة غريبة يبقي المدينة بأكملها في قبضة أخلاقية. مظهره الذي يبعث للتشاؤم يعبث بعقول سكان المدينة وبجميع شؤونهم وحتى محادثاتهم. وفاة بيليكوف كانت اكتساب رمز لانغلاقٍ أبدي من قِبله، فيقول أحد معارفه عندما رآه في التابوت: “ولا عجب أنه كان يرقد في التابوت سعيداً تقريباً”. أصبحت صورة “الرجل في حالة” رمزاً للرغبة في الاختباء من الحياة ففي القصة أعطى تشيخوف وصفاً تشاؤمياً دقيقاً لسلوك المثقفين في ذلك الوقت. 

في قصة “عنب الثعلب” أدرك إيفان جمايليسكي حلمه في الحياة فاشترى مزرعة أراد فيها زراعة عنب الثعلب. إيفان كان مسؤولاً بسيطاً في المحكمة، والده كان جندياً. وبعد أن أصبح مالك ارض ولد من جديد فتحول من شخص طيب جميل الوجه ومحبوب من أصدقائه إلى رجل مادي وتافه فتراه يتحدث عن الحاجة إلى العقاب البدني للفلاحين. تشيخوف يصف شخصيته ببشاعة: “إنه يشبه الخنزير، كلبه السمين وطاهيته السمينة يشبهان الخنازير”. إنَّ فكرة إيفان المتعصبة التي أخضع بها حياته بشكل عام: هي أنَّ الشخص الجيد نوعاً ما هو أيضاً حالة تربط الروح الحرة بنفس حالة التذمر والحرص كالتي كانت عند مدرس اللغة اليونانية “بيليكوف”. 

وبنفس الحالة تم تقديم بطل قصة “عن الحب”، إذ تم فصل الأفكار حول الخطيئة والفضيلة عن الحياة الحقيقية. 

في الثلاثية كان الموضوع الرئيس هو عدم التوصل لمعنى وهدف للحياة، مما أدى إلى إعادة تكوين مفهوم الأخلاقيات من قبل أبطال هذه الثلاثية. أظهر تشيخوف صورة تفصيلية لدمار وموت الروح البشرية بشكل خاص في قصة “إيونيتش” بطل قصة “عن الحب” يمر البطل بثلاث مراحل في حياته، مراحل متكررة لكنها تخضع فجأة لتغييرات سريعة لم يستطع التعامل معها فتسببت بانهياره. 

يأتي ديمتري إيونيتش ستارتسيف كطبيب إلى مستشفى القرية، كانت لديه مثل عليا لخدمة الناس في ذلك الوقت فتجده لا يخلو من تصور رومانسي للحياة، يحب الموسيقى، يملك من الأحلام بمقدار ما يملك من مشاعر، فيقول إيفان في إحدى المرات: إنه “قادر على الشعور بجمال ليلة قمرية”.

 قدّمه الكاتب في القصة السابقة كصورة مثالية للإنسان المحب للحياة، ففي البداية كان لا يأخذ المال من الفقراء للعلاج، على الرغم من أنه ليس بالرجل الغني، فعادة ما يذهب لعمله سيراً على قدميه. 

 فعندما رفضت “القطة” (كما سُميت في القصة) عرض ستارتسيف بالزواج، عانى من حالة اكتئاب قوية، اعتزل بسببها عن الجميع لمدة ثلاثة أيام. فترى هنا أنَّ حماس الحب تحول لقسوة تجلت في عزائه لنفسه بعبارة “إنَّ الحب لا يجلب سوى مشكلات غير ضرورية”. 

لا يتحدث تشيخوف بالتفصيل عن سنوات حياة ستارتسيف، لكنه يحدد فقط المعالم الرئيسة. البطل الذي اختلف عن سكان المدينة بأحلامه السامية ومشاعره الحماسية عن الحب والحياة ينتقل فجأة لحياة هادئة ومعزولة لأبعد حد، فسكان المدينة بنسبة لستارتسيف لم يتغيروا، ستارتسيف نفسه تغير. أصبح يأخذ الآن المال من جميع المرضى ولا يحادث أحداً وصار بليداً جداً فقصّ قلبه بحيث لم يستطع أن يحب مجدداً، فظل يفكر بشكل متكرر “من الجيد أنني لم أتزوج في ذلك الوقت”. 

يصف تشيخوف التغيير الكبير في الشخصية الرئيسة بالانهيار الأخلاقي، فتحوله إلى (إيونيتش) رجل سطحي، كسول، سمين، مفرغ من الأفكار الحية، قد صار لا يأخذ المال فحسب، بل يأخذ أيضاً كل ما يجلبه المرضى من هدايا؛ يتجول في المدينة على عربة تجرها الخيول اشتراها لنفسه وفي المساء يجمع ويعد المال ويفحص المنازل المخصصة للبيع. مصالحه الآن هي الثروة فقط، على الرغم من أنه شخصياً لا يعرف لماذا يحتاج إلى الكثير من المال، “لا توجد رغبات، لا أحلام لايونيتش بعد الآن” يخاطب البطل نفسه.

يُظهر تشيخوف أنَّ البيئة والأعراف السطحية تؤثر على الإنسان، ولكن هذه عوامل ثانوية فقط، السبب الرئيس لانهيار العالم الداخلي للبطل هو البطل نفسه، في عدم قدرته على المقاومة، على مقاومة المستنقع الذي يسحبه. عادة ما يحاول الناس فصل مفاهيم مثل الخير والشر، الحب والكراهية، الحزن والفرح... على عكس الكاتب الأدبي الذي كلما كان عالمه الداخلي أكثر وضوحاً، كان شعور القارئ أكثر تعقيداً عند التعرف على أعماله. هذا هو الحال مع تشيخوف: المضحك حزين بالنسبة له والمحزن مضحكٌ، وهناك عدد كبير من ظلال الكوميديا والدراما في أعماله. 

 أنطون تشيخوف يريد أن يجعل الناس واقعيين، أن يتقبلوا فكرة الحياة بواقعيتها. ربما هذا هو السبب في أنَّ قصص أنطون بافلوفيتش حزينة أكثر من كونها مضحكة، فالدراما وخاصة في قصصه القصيرة مخفية وراء الطابع الهزلي لسلوك الشخصيات، ولكن تدريجياً سرعان ما تختفي الحبكة الهزلية ويفسح المجال لتلك الحزينة فيلاحظ القارئ السوداوية في أعمال تشيخوف التي تعكس قذارة الواقع في شبع وبلادة الأغنياء، وعجز الفقراء. 

إنَّ موضوع أعمال تشيخوف بقدر ما يستطيع القارئ أن يحكم عليه هو موضوع شخصية إنسانية انتهى بها الحال في ظروف الحياة الواقعية وهذا يعني انعكاس الحزن على الشخصية، فالفكرة الرئيسة هي تحول الأشخاص ذوي التفكير التقدمي والمثقفين إلى أشخاص ماديين وسطحيين و”انغماسهم التدريجي في الوحل” هذه المأساة التي كانت مصير مثقفي روسيا في ذلك الوقت رآها تشيخوف فأظهرها لنا في ثلاثيته (الرجل في حالة- عنب الثعلب- عن الحب).