هل كل الناس فلاسفة

ثقافة 2023/03/01
...

حازم رعد 


يشيع في الدراسات الفلسفية تقسيمها إلى لونين، الأول ما نطلق عليه الفلسفة العملية والآخر ما نسميه النظرية والتقسيم المشار إليه الكلاسيكي وهو السائد للفلسفة والذي تلقيناه من أرسطو واستمر إلى يومنا الحاضر، مع أن بعض المؤسسات والفلاسفة لم يعودوا يعتمدونه في الدراسات الفلسفية. 

مع الالتفات إلى أن الكثير من المنصّات الفلسفية في الحاضر والفلسفة المعاصرة لا تعتني بهذه التفريع للفلسفة، ولكن مماشاة مع السائد المنهجي والتاريخي إذا أردنا التعريف بالفلسفة بنظرة شاملة في هذا التقسيم يكون أهم أركان البحث الفلسفي . 


طرحنا في عنوان المقال أعلاه تساؤلاً يقتضي الجواب عنه أن نعرف ماهي الفلسفة العملية أولاً لأن السائد العام في الفلسفة هو القول بأن جميع الناس من الناحية العملية لا أقل “فلاسفة” فيتوجب إذن أن ننقاد مع السائد المنهجي ونمضي في الكشف عن المعنى وهو “الإجابة” التي يتضمنها عنوان المقال أعلاه.

بادئ القول إن الإنسان بشكل عام يمارس في يومياته لوناً من الفلسفة [ في طبيعة اعتقاداته وفي إيمانه في رفضه لجملة من الأمور والمسائل أو قبولها وفي الطريقة التي يجدها مناسبة في تعاملاته داخل الأسرة ومع الأصدقاء ومع الغرباء ، في وجهات النظر والانطباعات التي يكوِّنها عما يجري حوله من أحداث ووقائع وأيضاً له طريقة يعتقد أنها صواب أثناء ما يمارس أعماله اليومية ويتصرّف من خلالها مع أشياء العالم ] وهذا الأمر بحد ذاته يوضح لنا أن الأفكار الفلسفية منتشرة في الحياة العامة وهذه السلوكيات والأفعال يمارسها في المنزل “كتربية الأسرة” ويمارسها في السياسة كتدبير للمدن وإدارة شؤون التجمّعات البشرية “السياسية” بوصفها دولة ، وفي الاحتجاجات والمطالبة بالحقوق وكذلك يمارس لوناً من التصرّف في السوق “سوق العمل” في الاشتغال بالمؤسسة في التعاملات مع الآخر فمثلاً يحتاط الإنسان في تعامله مع صنف من الناس ويعمل بثقة مع صنف آخر في يومياته كل ذلك يمارسه الإنسان ونحن نطلق عليه فلسفة ، كذلك يمارس الإنسان نوعاً من أخلاقيات العمل والتعامل مع الآخرين والحدود التي يتم التقيّد بها في التعامل معهم “ما ينبغي وما يتوجب وما يصحّ وما لا يصحّ” والفلسفة على وفق هذه المقاربة من طبيعتنا كما يعبّر روبرت زيمر ، وجزء لا ينفك عن وجودنا ، بمعنى أنها مجموعة قوانين وقوالب ومنطق ليس غريباً على الذات البشرية ولعل المناطقة أيضاً ساروا باتجاه هذا الرأي حيث اعتبروا الإنسان “حيواناً ناطقاً” أي مفكر أو عنده القابلية للتفكير والتعقّل وهذا بحد ذاته تفلسف إذ النظر العقلي والتأمل والتفكير بالأشياء ليس شيئاً آخر غير الفلسفة وإذ يعتمده الإنسان في تعاملاته وممارساته وسلوكه العام حتى لو لم يلتفت إلى تلك الأبعاد النظرية الناظمة بشكل “احترافي” لسلوكياته إلا أنه يمارسها كلما فكر في الحياة والعالم وطريقة العيش أو كانت له وجهة نظر إزاء عقائد وأفكار هذا العالم وليست الفلسفة إلا رؤية عن العالم كما يقول لوكاتش . 

فذلك كله فلسفة يتصرف الإنسان على غرارها في معيشه اليومي ولكنها فلسفة عملية أي هي “النشاط العملي الذي يمارسه الإنسان في حياته، ولذا يقال عادةً إن كل إنسان من ناحية عملية فيلسوف بالطبع” لأنه إنما يمارس ويتصرف وينتهي ويمتنع طبقاً لرؤية وتصور مسبق ووجهة نظر تكون الأرضية المعرفية لهذا الفعل وهذا التطبيق والممارسة معدّة قبلاً . 

يقول معاذ بن عامر : [إن الإنسان فيلسوف ضرورةً أياً كان الدور الذي يؤديه في هذه الحياة فالراقص والفنان والمعماري والمهندس وشرطي المرور والمذيع والمبرمج وعامل النظافة والشاعر والروائي والصيدلاني والطبيب شركاء في اثنتين:

1-الإنسانية: إذ يسيرون بشكل أفقي إلى جانب بعضهم البعض من دون تمييز أو تميز 

2-التفلسف إذ يتناوبون بشكل عمودي لبناء هرم الحضارة الإنسانية كل حسب تخصصه وبقدر اجتهاده العقلي ]

وعليه من لا يمتلك رؤية في العمل والذي يمارس يومياته بغير تصور مسبق أو من مقدمات منهجية يتحرك على غرارها في خطواته ولو كانت بقدر بسيط بحدود فهمه وطاقته الاستيعابية يكون هذا الإنسان كالسائر بلا بصيرة وبلا رؤية لا يزداد من مسيره وحركته إلا بعداً عن الأهداف وعن النتائج وبالتالي عن الحكمة وتصنّف ممارساته في خانة العبث والفوضى، ولكن من يتصرف ويفعل الأشياء طبقاً لوجهة نظر عقلانية واستفادة من خبرة ويعي حقيقة ما يفعل فذلك إنسان فيلسوف من الجانب العملي.

وهذا اللون من الفلسفة يشترك فيه جميع الناس على حد سواء لا فرق فيه بين إنسان وآخر “فإن كل إنسان فيلسوف” كما يقول انطونيو غرامشي، والقاسم المشترك لكون الناس فلاسفة هو وحدة العقل عندهم فالناس سواسية فهو أعدل الأشياء قسمة بين الناس ويمكن للجميع استخدامه على أحسن وجه ويمكن أيضاً إهماله فيقع الإنسان في تخبّطات وأغاليط ومشكلات في الواقع.

واللون الآخر هو الفلسفة النظرية وهذا اللون من الدراسات هو ما نطلق عليه عملية إبداع المفاهيم أي صناعة الأفكار والقوالب الفكرية الكلية التي تعرف بالأشياء ومن خلالها يشار إليها أن صناعة المفاهيم وهي عملية تكثيف الألفاظ لاختزال جميع أشياء وأشكال العالم في قوالب فكرية ومفاهيم قليلة وعن مثل هذا المعنى يعبر فنتغشتاين ( القوة في الفلسفة أنها تحوِّل الأفكار الكبيرة إلى كلمات قليلة ) وهذه نقطة جوهرية في الفلسفة ومن هنا نفهم أهمية الفلسفة في أن الإنسان يمارسها في كل لحظة من لحظات حياته وفي كل سلوك وتصرف يقوم به “فيقال هذه فلسفة هذا الإنسان إزاء هذا الشيء ، وتلك فلسفة الفلان الآخر إزاء الشيء الكذائي ). 

فهو أي الإنسان يمارس الفلسفة مع نفسه في تأملاته الشخصية فهو عندما يطلق عنان مخيلته فيصور لنفسه سلسلة معتد فيها من الأفكار عن حياته وعن الكون وعن مصيره وعن الأهداف التي ينشدها من أي سلوك يقوم به ويحاول أن يعالج الأخطاء التي يقع فيها ويخطط لما هو أفضل في المستقبل سواء المنظور أو الستراتيجي البعيد ، فكل ذلك فلسفة وتفكير إذا ما سلّمنا بأن الفلسفة في أحد جوانبها عملية تفكير عقلية في الأشياء واستحصال البراهين والأدلة على صحّة بعضها وخطأ البعض الآخر ، كل ذلك هو إعداد رؤية سواء مرحلية أو ستراتيجية ويستشرف مستقبله فذلك هو فلسفة وعليه فإن الإنسان يمارس الفلسفة في كل نَفَس ولحظة ويلوك في حياته.