المسرح.. فن الإمتاع المهذب

ثقافة 2023/03/01
...

أ‌. د. باسم الأعسم



تتعدد وتتنوع المتع في مسرح الحياة، والإنسان يؤرقه أمر إشباع غرائزه بشتى المتع، عبر وسائل مختلفة، شرعية أو غير شرعية، ما دام الدافع الرئيس تحرير النفس من المكبوتات، ومن ثم التمتع بالمال أو البنون أو السلطة ، أو القراءة والكتابة ومشاهدة الفنون.. الخ.

وعادة أن الأفراد على اختلاف وعيهم أو ثقافتهم أو انحدارهم ومذاهبهم، قد جبلت نفوسهم على التمتع بمخرجات الفن ومنها: المسرح والسينما والتلفاز، إلى جانب الهوس في زيارة المتاحف والمتنزهات والمنتجعات والآثار والمزارات، لكن التمتع الناتج عن مشاهدة المسلسلات التلفازية والمسرحيات، يكاد يكون الأكثر جذبا، والتصاقاً بذائقة المشاهدين، لما للفنون البصرية من سطوة هائلة على حواس وأفئدة الناس في العالم أجمع. 


وما دمنا بصدد المسرح، بوصفه خطاباً ثقافياً وفنياً وجمالياً، وترويحياً، فإنه يتفرد عن سواه، كونه أبا الفنون السمعية، والبصرية، والحركية المدهشة، والباعث على المتع المهذبة، التي تتعدد وتتنوع بتباين أنساق خطاب العرض المسرحي مما يشكل، مصدر جذب مائز وشائق، منذ أن نشأ المسرح، إذ اقترن وجوده، واستمراريته بما يحوز عليه من متع ذات خصوصية فريدة، مبعثها الاتصال المباشر بالجمهور، وسحر الأداء التمثيلي، مع جمالية الفضاءات السينوغرافية، وبراعة الإخراج، إلى جانب نقل المضمون الفكري والفلسفي لنص خطاب العرض المسرحى.

لقد قرن (أرسطو) المتعة بالمحاكاة والتطهير والجمال، مثلما عدها (برتولد بريشت) متعة ذهنية وجمالية، بوصفها مفهوماً فلسفيا وجمالياً، يعزز الجانب التعليمي في المسرح الملحمي . ولم تعد المتعة مختصرة على المسرح، بل إن جميع أشكال الآداب والفنون، تشكل فيها المتعة مرتكزاً رئيساً يتحكم في طبيعة الاتصال الوجداني والعاطفى والفكري مع المتلقي، غير أن المسرح يتفرد عن سواه، باحتوائه على مختلف الفنون والآداب، ولذلك تتنوع المتع فيه: بدءاً من النوع الأدبي، أو المذهبي، كالتراجيديا أو الكوميديا أو الميلودراما أو المونودراما. ولكل نوع متعة خاصة، مشروطة بنوع الجنس، الذي يفرض نمط التلقي والاستجابة، مروراً بالأنساق الرئيسة المشدة لنص خطاب العرض البصري، كالتمثيل، والإخراج، إلى جانب الأنساق التشكيلية الأخرى، كالديكور والأزياء، والإضاءة، والاكسسوارات، التي تؤلف المنظومة السينوغرافية للعرض، وان لجميع الأنساق المؤتلفة ضمن تشكيلة العرض، متعة ترسي متعة المشاهدة (متعة المتلقي)، أي المتعة الجمالية، التي تعد العلامة الدالة على تألق العرض. وتفرده ، والباعثة على التشويق لكل ما هو جميل وجليل في الآن نفسه.

ومن الأسئلة المثيرة: متى سيكون المسرح باعثاً على المتعة المهذبة؟ وهل المتع في الفنون الأخرى غير مهذبة؟!.

قطعا ، أن شرط توفر المتعة المهذبة مقترن بوجود الفكر التقدمي التنويري، الذي يشكل الثقل الفكري لنص العرض، مدعوماً بجمالية المقاربة الإخراجية الحداثية، الباعثة على التشويق المسرحي، مع سيل المبثوثات الجمالية التي ترسلها سينوغرافيا العرض، الذي يفترض أن تكون جاذبة بنحو مثير، كيما يتأسس ذلك التلقي العفوي بيين الجمهور ومرسلات العرض. 

وبعكس ذلك، سوف يغدو العرض محض استعراض فج، لحالات وصور بليدة، تفتقر إلى المتعة المهذبة، كما هي العروض اللامسرحية التجارية، التي تنزاح باتجاه إثارة غرائز الجمهور لموضوعات وإشارات ما , وتلفيقات أدائية لا تمت إلى المتعة الجمالية المهذبة بصلة ، لأنها ذات منحى ملفق، ولا تحتكم إلى أيما ضابط إخراجي وأخلاقي وجمالي مبين، مثلما هي العروض الغامضة حد التعمية، والمبهمة المحشوة بسيل عارم من الحركات الأدائية الفائضة، والالتواءات الجسدية المكرورة والمقرفة . وثمة بعض العروض المسرحية السردية، التي يغلب عليها طابع الحكي المباشر، والروي المسهب، من دون داع فني , أو ضرورة درامية، فتكون في العادة سقيمة مانعة لكل أشكال المتعة والتشويق. 

والخلاصة، أن المتعة في الآداب والفنون ومنها المسرح، تعد العتبة التي لا غنى عنها في استقطاب الجمهور بنحو تلقائي لحيثيات العرض المسرحى، وجمالياته، مما يؤكد للجميع أن المسرح الجاد والملتزم، هو من المتع المهذبة حسب، ولولاها لما بقي للمسرح أثر يذكر، بل العكس بوجودها قد ترسخ وازدهر.

         لقد حظي العديد من العروض المسرحية، الأكاديمية ذات النزوع التجريبي لعدد من المخرجين الرواد ومن لحقهم، بمزيد من المتعة الجمالية والفكرية المهذبة، وكذلك بعض العروض الشعبية لفرقة المسرح الفني الحديث ومسرحيات حيدر منعثر، لأنها نأت عن التهريج، والإسفاف والسفسطة الجوفاء، فاستحقت الخلود الفني، ودرست كعينات قصدية منتخبة في الرسائل والأطاريح الجامعية، بينما همشت وأقصيت، بعض العروض المسرحية، التي افتقرت إلى الدهشة والجمال والمتعة المهذبة في الأنساق البصرية كافة.