ذهبَ البعضُ الى اعتبار الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، قد أصبح ثقافة، أي أصبح جزءاً من المنظومة السلوكيَّة للأفراد الذين يشغلون مراكز قياديَّة أو غيرها في الدولة العراقيَّة
، وأنَّ الحديث عن الفساد عن لسان كثير من المسؤولين بات حالة معترفاً بها عبر وسائل الإعلام، يسمع المدعي العام ومؤسسة القضاء بكاملها بها يسمها أصحاب القرار في الدولة العراقية من دون أنْ يتخذوا إي إجراء قانوني أو إداري، إذن إذا نظرنا الى هذه الحالة فهو أصبح فعلا جزءاً من السلوك العام ولا ينم عن خجل أو إحراج، هكذا الحال إذن، فكيف تتصدى المؤسسات الرسميَّة وغير الرسميَّة للخلاص من هذا الوباء، فالمسألة يمكن أنْ تبدأ بالأسرة العراقيَّة التي تعدُّ من الأسر المحافظة والتي تهتمُ بزرع القيم الاجتماعية والمثالية في عقول ونفوس أفرادها
، وإذا كانت الحال كذلك فتقع المسؤولية الأخلاقية على الأب والأم في تنشئة جيل جديد يؤمن بالنزاهة والعدل وعدم الاعتداء على حق الغير، وأنْ يربى هذا الجيل تربية تعلوها القيم الإنسانية العليا،
والمسألة قد تكون صعبة لدى البعض الذي يعتبر أن أرباب بعض الأسر نفسها غاطسون في الفساد وان رباتها يدفعن أزواجهن أنْ يحذوا حذو الآخرين في تحقيق مكاسب كبيرة، هذا قد يكون صحيحاً
، ولكن لا بد ألا تعفى الأسر العراقية من مسؤوليتها الأخلاقية تجاه الجيل الصاعد في تصحيح المسار ووضعه على السكة الصحيحة وإلا انهار نظامهم الأخلاقي في المستقبل تماماً، وان على الآباء والأمهات أنْ يدركوا أن الأمانة في أعناقهم كبيرة جدا أمام الله والتاريخ في تربية أبنائهم، قد يقول البعض إنَّ الظروف المحيطة بالأسرة كلها تعمل بالضد من المثاليات، ولكن هذا ليس مبرراً إذا أخذ الوالدان زمام المبادرة
، لا سيما أنَّ الغالبية العظمى منهم مسلحون بقيم الدين والحلال والحرام، والقيم الاجتماعية التي نشؤوا عليها وهم يمجدونها ليل نهار فما عليهم إلا أنْ يقولوا كلمتهم في مستقبل جيل بأكمله. وتأسيس ثقافة مضادة لثقافة الفساد قد تأخذ وقتاً مناسباً لكي تثبت فاعليتها
، وهو أمرٌ متروكٌ لطبيعة التكوين الثقافي الجديد لجيل بات ينظر الى مستقبله بأسلوب يختلف عن الآباء والجديد تحت تأثير وسائل التواصل، وهذا يعني أنَّ ثقافة جديدة باتت تتشكل على وفق مفاهيم جديدة قد تكون على الأقل خلال السنوات الأخيرة
، وهي تعيش مرحلة خلاص أو مرحلة انسلاخ من أسلوب تقليدي بات غير مؤثر
، وهذا يتطلب انتباها من قبل الآباء والأمهات تجاه أبنائهم، وهو ينطبق كذلك على المؤسسات التي تقف بدور المساند في صياغة ثقافة مضادة للفساد، عندما يكون لازماً عليها –وتحت ظروف الأسرة الصعبة- أنْ تبرز أدواراً أخرى خارج نطاق الأسرة وأساليبها التقليديَّة لمواجهة حالة تمرد الأجيال الجديدة على قوالبها الثقافية بسحبها الى قيم مجتمعها، وهو أمرٌ ممكنٌ عندما يكون بمقدور المؤسسات الرسمية المسؤولة التخطيط لتنمية إنسانية تلبي حاجات الأجيال الجديدة، عندئذ سيتحقق العمل التكاملي بين المؤسسات التربوية الرسمية وغير الرسمية، ما يجعل عملية بلورة ثقافة جديدة مضادة لثقافة الفساد
ممكنة.
أما عن دور المؤسسات الرسمية، ولاسيما دورُ المؤسسة التعليمة الاجتماعي في بناء ثقافة مضادة لثقافة الفساد المالي والإداري في المجتمع. فمن المعروف أن للجانب التربوي الذي تضطلع به المؤسسات التربوية في كل المجتمعات المتحضرة والمتغيرة
، دوراً أساسياً في بناء منظومة قيميَّة في المجتمع تجعل من ظاهرة الفساد العدو الأول لحركة التقدم الاجتماعي وتعمل على ترسيخ المبادئ والقيم في النشء الجديد التي تحارب السلوك السلبي في المجتمع وتعمل على تقويمه بما يتيح مزيداً من فرص نجاح الإصلاح وتعطي لصناع القرار والقائمين على المؤسسات الرسمية تصورات وآليات إجرائية تساعد في بناء ستراتيجية مكافحة الفساد تكون بمثابة برنامج عمل وطني للنهوض بالمجتمع
، وهي تعمل على استحضار كل القيم الأخلاقية للمؤسسة الدينية ومؤسسة الأسرة والمجتمع الأهلي من أجل صياغة دعامة حقيقيَّة وصلبة للمؤسسات التربويَّة وكسند اجتماعي لها قائمٌ على أساس الوعي الاجتماعي بأهمية مخاطر الفساد وإيجاد الوسائل الرادعة له اجتماعياً وقانونياً من أجل القضاء علية، وبهذا المعنى فإنَّ توظيف الدور الاجتماعي للمؤسسات التربوية سيتفاعل مع كل هذه المعطيات المتوافرة في الجوانب الأخرى المساهمة في بناء ستراتيجية مكافحة الفساد
، إي أن أهمية البحث تمكن في كيفية قيام المؤسسة التربوية بدورها الاجتماعي في استحضار قيم المجتمع الأخلاقية من خلال قدرتها على التفاعل الايجابي مع المؤسسات الأخرى في إظهار هذا الدور باعتباره الأساس الذي تقوم عليه عملية الإصلاح، فبدون بناء الإنسان وفق قيم المجتمع الإيجابية لا يمكن تحقيق النجاح في هذا
الاتجاه.
إنَّ كل ذلك يبقى في دائرة التصورات الفلسفية المثالية إذا لم تتوفر إرادة سياسية صلبة تأخذ زمام المبادرة وتتحدى كل الصعاب من أجل ضرب عناصر الفساد من جذورها من خلال المحاسبة القانونية بالتوازي مع تجفيف منابع الفساد ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم
، قد يرى البعض ذلك صعباً ولكنْ إذا توفرت الإرادة السياسية والشعبية في بناء دولة قوية ومرفهة يكون ذلك سهلاً وممكناً
، إما إذا غاب الشعور الوطني والأخلاقي إزاء الأجيال القادمة فإنَّ المستقبل سيكون مجهولاً وتضيع فرص بناء الدولة التي ينشدها أبناء العراق
اليوم.