حقيبة مثقلة بالهراءات

ثقافة 2023/03/04
...

  كاظم جماسي


ترجلوا جميعهم، كل حسب أجله، في المحطات التي سبقت، أسرتي أمي وأبي وأخوتي، معارفي أيضا، وأمسيت وحدي على متن هذا القطار الذي وصل توّاً محطة جديدة أخرى، وقد وجدتني أحد ركابه منذ لا أعي من الزمن. 

 على أبدان عرباته اللامحدودة تتكرر يافطة "قطار الأبدية"، والمحطة التي للتو وصلها لم تكن الأخيرة، فما دام قطارا للأبديّة، قطعا هناك محطات أخر.

نزل الركاب للتزوّد بما يحتاجونه، ونزلت أنا، ليس للتزود بأيما شيء كما يفعلون، وإنما للتخلّص من أشياء كثر..

أشدها وطأة أن لم يعد في طاقتي حمل حقيبة ظهري، وقد فاضت بالأثقال، حتى أن ظهري، وقد ناف عمري على الستين، يكاد ينكسر من ثقلها ..

أنزويت على مصطبة من مصاطب المحطة، خلفها جدار وأمامها خلاء، وبجهد كبير أنزلت إلى الأرض، قبالتي، حقيبة ظهري، أرحت قليلا، متكئا إلى الجدار فتنفّست الصعداء. لم يمضِ طويل وقت حتى أقبلت سيدة بدا عمرها مناهزا للخمسين، وعلى قسمات وجهها المشع بياض، وجسدها المقتصد نوعا، الكثير من ترف الأنوثة غير الآفلة، بما لا يشيع فيمن هن في عمرها.

جلست قربي على المصطبة ذاتها، أنزلت إلى الأرض، حقيبة ظهرها وقد بدت ممتلئة أيضا..

- كلما تقدم القطار ثقلت حقائبنا.. قالت.

- محظوظ من بات بلا حقيبة.. أجبت.

- ولكن، من دونها، لن يسمحوا لنا بمواصلة الرحلة.. سيقذفون بنا إلى الخلاء.

 بعد دقائق أقبل صبي وصبية في نحو السادسة راكضين بحثا عن شيء ما، عرفت فيما بعد، أنها طابتهما التي عثرا عليها تحت المصطبة، تناولاها وظننتهما غادرا، لكنهما تسمّرا قبالتنا وعيونهم تبحلق في الحقيبتين، سألتهما: - ما تريدان؟

- أليستا ثقيلتان جدا بالنسبة اليكما؟ سأل الصبي.

- ‏نعم يابني، صدقت.. أجابته السيدة.

- بلغنا، يابني، أرذل العمر، ولم يعد في وسعنا التحمّل. أضفت.

بإيماءة من رأسها وافقتني السيدة.

- ‏إذن تخففا مما لا تريداه في جوفهما. اقترحت الصبية علينا..

التفت إلي السيدة - رأي سديد. قالت.

حقا كان مقترحا جد سديد..

 هتفت: - هيا..

على الفور تربّع الصبيان أمامنا وباشرا بفتح الحقيبتين، وراحا يخرجان منهما غرضا تلو غرض سائلين في كل مرة: ما هذا؟ وكنا، أنا وصاحبتي، بمرارة وأسى نجيب معا:- جثث أحلام متفسخة/ آمال يظنها الظمآن ارتواء ../ ثقة عمياء لطالما ارتطمت جبهتها بكونكريت النكران / شهوات، كما نيران تأججت، غير أنّها افتقرت لشجاعة البوح أو السطو، فانطفأت/ وعود كاذبة/ براهين، أو بدا أنها كذلك، سرعان ما فسدت كنبيذ تخطى موعده فأمسى خلا/ صداقات الأمس، وجه لوجه، أو على أثير الالكترون، أمست اليوم وجها لظهر، معظمها تفتت كما كسرات خبز يابس كنستها الريح/ ثرثرات كثيرات/ محاباة زائفة/ عديد الأقنعة بإصباغ مغشوشة هشة، سالت على الفور، ولم تصمد ازاء بلل نزير/ علاقات حب فاشلات خلفت الكثير من أوشام الحروق/ تعاليم حظت بتقديسنا بدءا وتبين، فيما بعد، مبلغ رخصها وتفاهتها ../ التاريخ .. آهٍ يا لثقل التاريخ.. يا لنتانة ما تبرزه حكماؤه، دهاقنته وأئمته، جبابرته وحكامه.. كان هناك في قاع الحقيبة أيضا كثير من الخوف موثقا بأسئلة، من مثل: أتكون البطولة في المواجهة أم في الهرب؟ ولكن إن لم تكن مكافئا لخصمك، كما لو كنت أعزل يواجه جمعا مدججا بالمال والسلاح..  سيغدو الهروب، قطعا، بطولة ما بعدها بطولة. وأظننا، السيدة وأنا، بعد أن اضحينا صديقين، ما فتئنا راغبين بمواصلة الرحلة، ابطالا، سوى أننا ابطال هاربون من الزوال نحو الأبدية..

كان الصبيان يصغيان فيما أيديهما، في الوقت نفسه، تقذف، بنشاط ملحوظ، إلى الخلاء بما تخرجاه من جوف حقيبتينا المختنقتين بأسمال مهترئة وعديد الأغراض منتهية الصلاحية.. بعد مضي زمن لم نقدره، دوت صافرة القطار.. انتفض الصبيان واقفين، ناولانا حقيبتينا، وقد كانتا شبه فارغتين، حملناهما على ظهرينا، وكما مهر ومهرة، جذلين نفيض عنفوانا وحياة، ركضنا نسابق الصبيان لنواصل رحلتنا على متن قطارنا.. قطار 

الأبديَّة.